تملى عليه بكرة وأصيلا -، وقولهم - إنما يعلمه بشر -، والمعنى على القراءة الثانية: قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت، وهو كقولهم - أساطير الأولين -. والمعنى على القراءة الثالثة مثل المعنى على القراءة الأولى. قال الأخفش: هي بمعنى دارست إلا أنه أبلغ. وحكى عن المبرد أنه قرأ (وليقولوا) بإسكان اللام فيكون فيه معنى التهديد: أي وليقولوا ما شاءوا فإن الحق بين، وفى هذا اللفظ أصله درس يدرس دراسة فهو من الدرس وهو القراءة، وقيل من درسته: أي ذللته بكثرة القراءة، وأصله درس الطعام: أي داسه. والدياس: الدارس بلغة أهل الشام، وقيل أصله من درست الثوب أدرسه درسا: أي أخلقته، ودرست المرأة درسا: أي حاضت، ويقال: إن فرج المرأة يكنى أبا دراس وهو من الحيض، والدرس أيضا: الطريق الخفي. وحكى الأصمعي:
بعير لم يدرس: أي لم يركب. وروى عن ابن عباس وأصحابه وأبي وابن مسعود والأعمش أنهم قرءوا " درس " أي درس محمد الآيات، وقرئ " درست " وبه قرأ زيد بن ثابت: أي الآيات على البناء للمفعول، " ودارست " أي دارست اليهود محمدا، واللام في (لنبينه) لام كي: أي نصرف الآيات لكي نبينه لقوم يعلمون، والضمير راجع إلى الآيات لأنها في معنى القرآن، أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر، لأنه معلوم من السياق أو إلى التبيين المدلول عليه بالفعل. قوله (اتبع ما أوحى إليك من ربك) أمره الله باتباع ما أوحى إليه وأن لا يشغل خاطره بهم، بل يشتغل باتباع ما أمره الله، وجملة (لا إله إلا هو) معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لقصد تأكيد إيجاب الاتباع (وأعرض) معطوف على (اتبع) أمره الله بالإعراض عن المشركين بعدما أمره باتباع ما أوحى إليه، وهذا قبل نزول آية السيف (ولو شاء الله ما أشركوا) أي لو شاء الله عدم إشراكهم ما أشركوا، وفيه أن الشرك بمشيئة الله سبحانه، والكلام في تقرير هذا على الوجه الذي يتعارف به أهل علم الكلام والميزان معروف فلا نطيل بإيراده (وما جعلناك عليهم حفيظا) أي رقيبا (وما أنت عليهم بوكيل) أي قيم بما فيه نفعهم فتجلبه إليهم، ليس عليك إلا إبلاغ الرسالة. قوله (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) الموصول عبارة عن الآلهة التي كانت تعبدها الكفار. والمعنى: لا تسب يا محمد آلهة هؤلاء الكفار التي يدعونها من دون الله، فيتسبب عن ذلك سبهم لله عدوانا وتجاوزا عن الحق وجهلا منهم.
وفى هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق والناهي عن الباطل إذا خشى أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم، ومخالفة حق، ووقوع في باطل أشد كان الترك أولى به، بل كان واجبا عليه، وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله المتصدين لبيانها للناس إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه وتركوا غيره من المعروف، وإذا نهاهم عن منكر فعلوه وفعلوا غيره من المنكرات عنادا للحق وبغضا لاتباع المحقين وجراءة على الله سبحانه سبحانه، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة وجعل المخالفة لها والتجرؤ على أهلها ديدنه وهجيراه، كما يشاهد ذلك في أهل البدع الذين إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل، وإذا أرشدوا إلى السنة قابلوها بما لديهم من البديعة، فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين المتهاونون بالشرائع، وهم شر من الزنادقة، لأنهم يحتجون بالباطل وينتمون إلى البدع ويتظاهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين، والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام وتحاماهم أهله، وقد ينفق كيدهم ويتم باطلهم وكفرهم نادرا على ضعيف من ضعفاء المسلمين مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل، وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة، وهي أصل أصيل في سد الذرائع وقطع التطرق إلى الشبه. وقرأ أهل مكة " عدوا " بضم العين والدال وتشديد الواو، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة. وقرأ من