منازع يتصرف في ملكه بما شاء من التصرفات التي من جملتها أنه يحيى من قضت مشيئته بإحيائه، ويميت من قضت مشيئته بإماتته، وما لعباده من دونه من ولي يواليهم ولا نصير ينصرهم، فلا يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى، فإن القرابة لا تنفع شيئا ولا تؤثر أثرا، بل التصرف في جميع الأشياء لله وحده. قوله (لقد تاب الله على النبي) فيما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من الإذن في التخلف، أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين.
وليس من لازم التوبة أن يسبق الذنب ممن وقعت منه أوله، لأن كل العباد محتاج إلى التوبة والاستغفار. وقد تكون التوبة منه تعالى على النبي من باب أنه ترك ما هو الأولى والأليق كما في قوله - عفا الله عنك لم أذنت لهم -، ويجوز أن يكون ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأجل التعريض للمذنبين بأن يتجنبوا الذنوب ويتوبوا عما قد لابسوه منها، وكذلك تاب الله سبحانه على المهاجرين والأنصار فيما قد اقترفوه من الذنوب. ومن هذا القبيل ما صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله " إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ثم وصف سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يتخلفوا عنه، وساعة العسرة هي غزوة تبوك، فإنهم كانوا في عسرة شديدة، فالمراد بالساعة جميع أوقات تلك الغزاة، ولم يرد ساعة بعينها، والعسرة صعوبة الأمر. قوله (من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم) في كاد ضمير الشأن، وقلوب مرفوع بتزيغ عند سيبويه، وقيل هي مرفوعة بكاد، ويكون التقدير من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ. وقرأ الأعمش وحمزة وحفص " يزيغ " بالتحتية. قال أبو حاتم: من قرأ بالياء التحتية، فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد. قال النحاس:
والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجمع، ومعنى (تزيغ) تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل معناه:
تميل عن الحق وتترك المناصرة والممانعة، وقيل معناه: تهم بالتخلف عن الغزو لما هم فيه من الشدة العظيمة. وفي قراءة ابن مسعود " من بعد ما زاغت " وهم المتخلفون على هذه القراءة. وفي تكرير التوبة عليهم بقوله (ثم تاب عليهم ليتوبوا) تأكيد ظاهر واعتناء بشأنها، هذا إن كان الضمير راجعا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم. وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار. قوله (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) أي وتاب على الثلاثة الذين خلفوا: أي أخروا ولم تقبل توبتهم في الحال كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم. قال ابن جرير: معنى خلفوا تركوا، يقال خلفت فلانا فارقته. وقرأ عكرمة بن خالد " خلفوا " بالتخفيف: أي أقاموا بعد نهوض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى الغزو. وقرأ جعفر بن محمد " خالفوا " وهؤلاء الثلاثة: هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع أو ابن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي، وكلهم من الأنصار لم يقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بأن الله قد تاب عليهم، وقيل معنى خلفوا فسدوا، مأخوذ من خلوف الفم قوله (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) معناه: أنهم أخروا عن قبول التوبة إلى هذه الغاية، وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وما مصدرية: أي برحبها، لإعراض الناس عنهم وعدم مكالمتهم من كل أحد، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى الناس أن يكالموهم، والرحب: الواسع، يقال: منزل رحب ورحيب ورحاب، وفي هذه الآية دليل على جواز هجران أهل المعاصي تأديبا لهم لينزجروا عن المعاصي. ومعنى ضيق أنفسهم عليهم: أنها ضاقت صدورهم بما نالهم من الوحشة وبما حصل لهم من الجفوة، وعبر بالظن في قوله وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) عن العلم: أي علموا أن لا ملجأ يلجئون إليه قط إلا إلى الله سبحانه بالتوبة والاستغفار. قوله (ثم تاب عليهم ليتوبوا) أي رجع عليهم بالقبول والرحمة، وأنزل في القرآن التوبة عليهم ليستقيموا أو وفقهم للتوبة فيما يستقبل من الزمان إن فرطت منهم خطيئة ليتوبوا عنها ويرجعوا إلى الله فيها ويندموا على ما وقع