قتل أخاه لم يدر كيف يواريه لكونه أول ميت مات من بني آدم، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فحفر له ثم حثا عليه، فما رآه قابيل (قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي) فواراه، والضمير المستكن في (ليريه) للغراب، وقيل لله سبحانه، و (كيف) في محل نصب على الحال من ضمير (يوارى) والجملة ثاني مفعولي يريه. والمراد بالسوءة هنا ذاته كلها لكونها ميتة، و (قال) استئناف جواب سؤال مقدر من سوق الكلام، كأنه قيل: فماذا قال عند أن شاهد الغراب يفعل ذلك؟ و (يا ويلتى) كلمة تحسر وتحزن، والألف بدل من ياء المتكلم كأنه دعا ويلته بأن تحضر في ذلك الوقت، والويلة الهلكة، والكلام خارج مخرج التعجب منه من عدم اهتدائه لمواراة أخيه كما اهتدى الغراب إلى ذلك (فأواري) بالنصب على أنه جواب الاستفهام، وقرئ بالسكون على تقدير فأنا أوارى (فأصبح من النادمين) على قتله، وقيل لم يكن ندمه ندم توبة بل ندم لفقده، لا على قتله، وقيل غير ذلك.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس قال " نهي أن تنكح المرأة أخاها توأمها، وأن ينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة، فبينما هم كذلك ولد له امرأة وضيئة وولد له أخرى قبيحة دميمة، فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي، فقال:
لا، أنا أحق بأختي، فقربا قربانا، فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض، وصاحب الحرث بصبرة من طعام فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع ". قال ابن كثير في تفسيره: إسناده جيد، وكذا قال السيوطي في الدر المنثور. وأخرج ابن جرير عنه قال: كان من شأن بني آدم أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه، وإنما كان القربان يقر به الرجل، فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قربانا ثم ذكرا ما قرباه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله (لئن بسطت إلى يدك) قال: كتب عليهم إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) يقول: إني أريد أن تكون عليك خطيئتك ودمى فتبوء بهما جميعا. وأخرج ابن جرير عنه (بإثمي): قال بقتلك إياي (و إثمك)، قال: بما كان منك قبل ذلك. وأخرج عن قتادة والضحاك مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قي قوله (فطوعت له نفسه قتل أخيه) قال: شجعته على قتل أخيه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: زينت له نفسه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله (فطوعت له نفسه قتل أخيه) فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال فأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له وهو نائم، فرفع صخرة فشدخ به رأسه فمات، فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فحفر له ثم حثا عليه، فلما رآه (قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب). وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ". وقد روى في صفة قتله لأخيه روايات الله أعلم بصحتها. سورة المائدة الآية (32 - 34)