بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله، للدلالة على أن الحمد كله له، ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون. وقد تقدم في سورة الفاتحة ما يغنى عن الإعادة له هنا، ثم وصف نفسه بأنه الذي خلق السماوات والأرض إخبارا عن قدرته الكاملة الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد، فإن من اخترع ذلك وأوجده هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد، والخلق يكون بمعنى الاختراع، وبمعنى التقدير. وقد تقدم تحقيق ذلك، وجمع السماوات لتعدد طباقها، وقدمها على الأرض لتقدمها في الوجود - والأرض بعد ذلك دحاها -. قوله (وجعل الظلمات والنور) معطوف على خلق، ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله (خلق السماوات والأرض) ثم ذكر خلق الأعراض بقوله (وجعل الظلمات والنور) لأن الجواهر لا تستغنى عن الأعراض.
واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور، فقال جمهور المفسرين: المراد بالظلمات سواد الليل، وبالنور ضياء النهار. وقال الحسن: الكفر والإيمان. قال ابن عطية: وهذا خروج عن الظاهر انتهى. والأولى أن يقال: إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة، والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان - أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات - وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها. قال النحاس:
جعل هنا بمعنى خلق: وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد: وقال القرطبي: جعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره. قال ابن عطية: وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق، فيكون الجمع معطوفا على الجمع، والمفرد معطوفا على المفرد، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل، ولهذا كان النهار مسلوخا من الليل. قوله (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) معطوف على الحمد لله، أو على خلق السماوات والأرض، وثم لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السماوات والأرض والظلمات والنور، فإن هذا يقتضى الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه، لا الكفر به واتخاذ شريك له، وتقديم المفعول للاهتمام، ورعاية الفواصل، وحذف المفعول لظهوره: أي يعدلون به مالا يقدر على شئ مما يقدر عليه، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه تلك النعم، ويكون من الكفرة الكفر.
قوله (هو الذي خلقكم من طين) في معناه قولان: أحدهما وهو الأشهر، وبه قال الجمهور أن المراد آدم عليه السلام، وأخرجه مخرج الخطاب للجميع، لأنهم ولده ونسله. الثاني أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين، ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السماوات والأرض اتباعا للعالم الأصغر بالعالم الأكبر، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث ورد لجحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه. قوله (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) جاء بكلمة " ثم " لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت.
وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين، فقيل (قضى أجلا) يعنى الموت (وأجل مسمى عنده) يعنى القيامة، وهو مروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك ومجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم وعطية والسدي وخصيف ومقاتل وغيرهم، وقيل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث، وهو قريب من الأول. وقيل الأول مدة الدنيا، والثاني عمر الإنسان إلى حين موته. وهو مروى عن ابن عباس ومجاهد. وقيل الأول قبض الأرواح في النوم، والثاني قبض الروح عند الموت. وقيل الأول ما يعرف من أوقات الأهلة والبروج وما يشبه ذلك، والثاني أجل الموت. وقيل الأول لمن مضى. والثاني