ويعرفها في تلاوته إذا كان ممن ينزل القرآن على قلبه عند التلاوة وإذا كان مقام القرآن ومنزله ما ذكرناه وجد كل موجود فيه ما يريد ولذلك كان يقول الشيخ أبو مدين لا يكون المريد مريدا حتى يجد في القرآن كل ما يريد وكل كلام لا يكون له هذا العموم فليس بقرآن ولما كان نزوله على القلب وهو صفة إلهية لا تفارق موصوفها لم يتمكن أن ينزل به غير من هو كلامه فذكر الحق أنه وسعه قلب عبده المؤمن فنزول القرآن في قلب المؤمن هو نزول الحق فيه فيكلم الحق هذا العبد من سره في سره وهو قولهم حدثني قلبي عن ربي من غير واسطة فالتالي إنما سمي تاليا لتتابع الكلام بعضه بعضا وتتابعه يقضي عليه بحر في الغاية وهما من والى فينزل من كذا إلى كذا ولما كان القلب من العالم الأعلى وكان اللسان من العالم الأنزل وكان الحق منزله قلب العبد وهو المتكلم وهو في القلب واحد العين والحروف من عالم اللسان ففصل اللسان الآيات وتلا بعضها بعضا فيسمى الإنسان تاليا من حيث لسانه فإنه المفصل لما أنزل مجملا والقرآن من الكتب والصحف المنزلة بمنزلة الإنسان من العالم فإنه مجموع الكتب والإنسان مجموع العالم فهما إخوان وأعني بذلك الإنسان الكامل وليس ذلك إلا من أنزل عليه القرآن من جميع جهاته ونسبه وما سواه من ورثته إنما أنزل عليه من بين كتفيه فاستقر في صدره عن ظهر غيب وهي الوراثة الكاملة حكي عن أبي يزيد أنه ما مات حتى استظهر القرآن وقال رسول الله ص في الذي أوتي القرآن إن النبوة أدرجت بين جنبيه وهذا الفرق بين الأنبياء والأولياء الأتباع لكن من أدرجت النبوة بين جنبيه وجاءه القرآن عن ظهر غيب أعطى الرؤية من خلفه كما أعطيها من أمامه إذ كان القرآن لا ينزل إلا مواجهة فهو للنبي ص من وجهين وجه معتاد ووجه غير معتاد وهو للوارث من وجه غير معتاد فسمي ظهرا بحكم الأصل وهو وجه بحكم الفرع ولما ذقنا ذلك لم نر لأنفسنا تمييز جهة من غيرها وجاءنا بغتة فما عرفنا الأمر كيف هو إلا بعد ذلك فمن وقف مع القرآن من حيث هو قرآن كان ذا عين واحدة أحدية الجمع ومن وقف معه من حيث ما هو مجموع كان في حقه فرقانا فشاهد الظهر والبطن والحد والمطلع فقال لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع وذلك الآخر لا يقول بهذا والذوق مختلف ولما ذقنا هذا الأمر الآخر كان التنزل فرقانيا فقلنا هذا حلال وهذا حرام وهذا مباح وتنوعت المشارب واختلفت المذاهب وتميزت المراتب وظهرت الأسماء الإلهية والآثار الكونية وكثرت الأسماء والآلهة في العالم فعبدت الملائكة والكواكب والطبيعة والأركان والحيوانات والنبات والأحجار والأناسي والجن حتى إن الواحد لما جاء بالوحدانية قالوا أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب وفي الحقيقة ليس العجب ممن وحد وإنما العجب ممن كثر بلا دليل ولا برهان ولهذا قال ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به وهذه رحمة من الله بمن لاحت له شبهة في إثبات الكثرة فاعتقد أنها برهان بأن الله يتجاوز عنه فإنه بذل وسعه في النظر وما أعطته قوته غير ذلك فليس للمشركين عن نظر أرجى في عفو الله من هذه الآية وقد قلنا إنه ما في العالم أثر إلا وهو مستند إلى حقيقة إلهية فمن أين تعددت الآلهة وعبدت من الحقائق الإلهية فاعلم إن ذلك من الأسماء فإن الله لما وسع فيها فقال اعبدوا الله وقال اتقوا الله ربكم وقال اسجدوا للرحمن وقال ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا يعني الله أو الرحمن فله الأسماء الحسنى فزاد الأمر عندهم إبهاما أكثر مما كان فإنه لم يقل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فالعين واحدة وهذان اسمان لها هذا هو النص الذي يرفع الإشكال فما أبقى الله هذا الإشكال إلا رحمة بالمشركين أصحاب النظر الذي أشركوا عن شبهة وبقي الوعيد في حق المقلدين حيث أهلهم الله للنظر وما نظروا ولا فكروا ولا اعتبروا فإنه ما هو علم تقليد فالمخطئ مع النظر أولى وأعلى من الإصابة والمصيب مع التقليد إلا في ذات الحق فإنه لا ينبغي أن يتصرف مخلوق فيها بحكم النظر الفكري وإنما هو مع الخبر الإلهي فيما يخبر به عن نفسه لا يقاس عليه ولا يزيد ولا ينقص ولا يتأول ولا يقصد بذلك القول وجها معينا بل يعقل المعنى ويجهل النسبة ويرد العلم بالنسبة إلى علم الله فيها فمن نظر الأمر بمثل هذا النظر فقد أقام العذر لصاحبه وكان رحمة للعالمين ثم اعلم أن الله أنزل الكتاب فرقانا في ليلة القدر ليلة النصف من شعبان وأنزله قرآنا في شهر رمضان كل ذلك إلى السماء الدنيا ومن هناك نزل في ثلاث وعشرين سنة فرقانا نجوما ذا آيات وسور لتعلم المنازل وتتبين المراتب فمن نزوله إلى الأرض في شهر شعبان يتلى فرقانا ومن نزوله في شهر رمضان يتلى قرآنا فمنا من
(٩٤)