الآن يعطيه إياها ذلك المقام بالحصول فيه إلها ما يلهمه الله فيثني عليه بها وهكذا كل منزلة ومرتبة في العالم دنيا وآخرة إلى ما لا يتناهى له ثناء خاص في كل منزل منها فإذا سبحه ورثه ذلك الثناء علما آخر لم يكن عنده من علم الأذن الإلهي الذي خلق الله منه بيد عيسى الطير ومنه نفخ عيسى فيه فكان طيرا ومنه أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى وهو علم شريف تحقق به أبو يزيد البسطامي وذو النون المصري فأما أبو يزيد فقتل نملة بغير قصد فلما علم بها نفخ فيها فقامت حية بإذن الله وأما ذو النون فجاءته العجوز التي أخذ التمساح ولدها فذهب به في النيل فدعا بالتمساح فألقاه إليها من جوفه حيا كما ألقى الحوت يونس فإذا كشف له عن هذا العلم أثنى عليه سبحانه بما ينبغي له من المحامد التي يطلبها هذا المقام ومن هنا يكون له الاستشراف على من خرج عن هذا المقام فيعلم حال الخارجين لأن هذا المنزل هو المنزل الجامع ولهذا سمي منزل القرآن فإذا نزل صاحب هذا المنزل من هذا المقام إلى الكون تعرض له العدو بأجناده وهو إبليس المعادي له بالطبع ولا سيما للبنين فإنه منافر من جميع الوجوه بخلاف معاداته لآدم فإنه جمع بينه وبين آدم اليبس فإن بين التراب والنار جامعا ولذلك الجامع صدقه لما أقسم له بالله أنه لنا صح وما صدقه الأبناء فإنه للأبناء ضد من جميع الوجوه وهو قوله في الأبناء أنه خلقهم من ماء وهو منافر للنار فكانت عداوة الأبناء أشد من عداوة الأب له وجعل الله هذا العدو محجوبا عن إدراك الأبصار وجعل له علامات في القلب من طريق الشرع يعرفه بها تقوم له مقام إدراك البصر فيتحفظ بتلك العلامات من إلقائه وأعان الله هذا الإنسان عليه بالملك الذي جعله مقابلا له غيبا لغيب فمهما لم يؤثر في ظاهر الإنسان وظهر عليه الملك بمساعدة النفس كان أجرن للنفس أجرها وأجر المعين وهو الملك لأن الملك لا يقبل الجزاء ولا يزيد مقامه ولا ينقص وإن أثر في ظاهر الإنسان فإن الملك يغتم لذلك ويستغفر لهذا الإنسان وهو أعني الملك ليس بمحل لجزاء الغم فيعود ذلك الجزاء على الإنسان فهو في الحالتين رابح في الطاعة والمعصية والايمان يشد من الملك ولهذا يستغفر له الملك واعلم أن القرآن لما كان جامعا تجاذبته جميع الحقائق الإلهية والكونية على السواء فلم يكن فيه عوج ولا تحريف فمنزلته الاعتدال والاعتدال منزل حفظ بقاء الوجود على الموجود ما هو منزل الإيجاد لأن الإيجاد لا يكون إلا عن انحراف وميل ويسمى في حق الحق توجها إراديا وهو قوله إذا أردناه ولما كان منزله الاعتدال كان له الديمومة والبقاء فله إبقاء التكوين وبقاء الكون فلو نزل عن منزله لنزل من الاعتدال إلى الانحراف وهو قوله ولو أن قرآنا سيرت به الجبال وقوله لو أنزلنا هذا القرآن يعني عن منزله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا يعني الجبل فلم يحفظ عليه صورته لأنه نزل عن منزله ولما كان هذا منزله وتجاذبته الحقائق على سواء كان من به أنزل عليه رحمة للعالمين لأن الرحمة وسعت كل شئ فطلبها كل شئ طلبا ذاتيا لما دعا رسول الله ص في القنوت على من دعا عليه عوتب في ذلك فقيل له وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين أي لترحمهم لأنك صاحب القرآن والقرآن ينطق بأني ما أرسلتك إلا رحمة وإنه ينطق بأن رحمتي وسعت كل شئ فهي بين منة ووجوب فمن عبادي من تسعهم بحكم الوجوب ومنهم من تسعهم بحكم المنة والأصل المنة والفضل والإنعام الإلهي إذ لم يكن الكون فيكون له استحقاق فما كان ظهوره إلا من عين المنة وكذلك الأمر الذي به استحق الرحمة كان من عين المنة فإذا نزل القرآن عن منزله فإنه كلامه وكلامه على نسبة واحدة لما يقبله الكلام من التقسيم فإنه ينزله وفيه حقيقة الاعتدال في النسب وهو جديد عند كل تال أبدا فلا يقبل نزوله إلا مناسبا له في الاعتدال فهو معرى عن الهوى ولهذا قيل في محمد ص وما ينطق عن الهوى ونهى غيره من الرسل الخلفاء أن يتبع الهوى فلم ينزل في المرتبة منزلة من أخبر عنه أنه لا ينطق عن الهوى وما كل نال يحس بنزوله لشغل روحه بطبيعته فينزل عليه من خلف حجاب الطبع فلا يؤثر فيه التذاذا وهو قوله ص في حق قوم من التالين إنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم فهذا قرآن منزل على الألسنة لا على الأفئدة وقال في الذوق نزل به الروح الأمين على قلبك فذلك هو الذي يجد لنزوله عليه حلاوة لا يقدر قدرها تفوق كل لذة فإذا وجدها فذلك الذي نزل عليه القرآن الجديد الذي لا يبلى والفارق بين النزولين أن الذي ينزل القرآن على قلبه ينزل بالفهم فيعرف ما يقرأ وإن كان بغير لسانه ويعرف معاني ما يقرأ وإن كانت تلك الألفاظ لا يعرف معانيها في غير القرآن لأنها ليست بلغته
(٩٣)