يتلوه به فذلك القرآن ومنا من يتلوه بنفسه فذلك الفرقان ولا يصح أن يتلى بهما في عين واحدة ولا حال واحدة فإذا كنت عنده كنت عندك وإذا كنت عندك لم تكن عنده لأن كل شئ عنده بمقدار وهو ليس كذلك بل هو مع كل شئ وعند من يذكره بالذكر لا غير فإنه جليس الذاكرين (فصل) اعلم أن الله أنزل هذا القرآن حروفا منظومة من اثنين إلى خمسة أحرف متصلة ومفردة وجعله كلمات وآيات وسورا ونورا وهدى وضياء وشفاء ورحمة وذكرا وعربيا ومبينا وحقا وكتابا ومحكما ومتشابها ومفصلا ولكل اسم ونعت من هذه الأسماء معنى ليس للآخر وكله كلام الله ولما كان جامعا لهذه الحقائق وأمثالها استحق اسم القرآن فلنذكر مراتب بعض نعوته ليعلم أهل الله منزلته (وصل) فمن ذلك كونه حروفا والمفهوم من هذا الاسم أمران الأمر الواحد المسمى قولا وكلاما ولفظا والأمر الآخر يسمى كتابة ورقما وخطا والقرآن يخط فله حروف الرقم وينطق به فله حروف اللفظ فلما ذا يرجع كونه حروفا منطوقا بها هل لكلام الله الذي هو صفته أو هل للمترجم عنه فاعلم إن الله قد أخبرنا نبيه ص أنه سبحانه يتجلى في القيامة في صور مختلفة فيعرف وينكر ومن كانت حقيقته تقبل التجلي في الصور فلا يبعد أن يكون الكلام بالحروف المتلفظ بها المسماة كلام الله لبعض تلك الصور كما يليق بجلاله فكما نقول تجلى في صورة كما يليق بجلاله كذلك نقول تكلم بصوت وحرف كما يليق بجلاله ونحملها محمل الفرح والضحك والعين والقدم واليد واليمين وغير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة مما يجب الايمان به على المعنى المعقول من غير كيفية ولا تشبيه فإنه يقول ليس كمثله شئ فنفى إن يماثل مع عقل المعنى وجهل النسبة فإذا انتظمت الحروف سميت كلمة وإذا انتظمت الكلمات سميت آية وإذا انتظمت الآيات سميت سورة فلما وصف نفسه بأن له نفسا كما يليق بجلاله ووصف نفسه بالصوت والقول وقال أجره حتى يسمع كلام الله كان النفس المسمى صوتا وكان انقطاعه من الصوت حيث انقطع يسمى حرفا وكل ذلك معقول مما وقع الإخبار الإلهي به لنا مع نفي المماثلة والتشبيه كسائر الصفات ولما وصف نفسه بالصورة عرفنا معنى قوله إنه الظاهر والباطن فالباطن للظاهر غيب والظاهر للباطن شهادة ووصف نفسه بأن له نفسا فهو خروجه من الغيب وظهور الحروف شهادة والحروف ظروف للمعاني التي هي أرواحها والتي وضعت للدلالة عليها بحكم التواطئ وقال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم وأبلغ من هذا الإفصاح من الله لعباده ما يكون فلا بد أن يفهم من هذه العبارات ما تدل عليه في ذلك اللسان بما وقع الإخبار به عن الكون فيعرف المعنى الذي يدل عليه ذلك الكلام وتعرف النسبة وما وقع الإخبار به عن الله يعرف المعنى الذي يدل عليه ذلك الكلام وتجهل النسبة لما أعطى الدليل العقلي والدليل الشرعي من نفي المماثلة فإذا تحققت ما قررناه تبينت أن كلام الله هو هذا المتلو المسموع المتلفظ به المسمى قرآنا وتوراة وزبورا وإنجيلا فحروفه تعين مراتب كلمه من حيث مفرداتها ثم للكلمة من حيث جمعيتها معنى ليس لآحاد حروف الكلمة فللكلمة أثر في نفس السامع لهذا سميت كلمة في اللسان العربي مشتقة من الكلم وهو الجرح وهو أثر في جسم المكلوم كذلك للكلمة أثر في نفس السامع أعطاه ذلك الأثر استعداد السمع لقبول الكلام بوساطة الفهم لا بد من ذلك فإذا انتظمت كلمتان فصاعدا سمي المجموع آية أي علامة على أمر لم يعط ذلك الأمر كل كلمة على انفرادها مثل الحروف مع الكلمة إذ قد تقرر أن للمجموع حكما لا يكون لمفردات ذلك المجموع فإذا انتظمت الآيات بالغا ما أراد المتكلم أن يبلغ بها سمي المجموع سورة معناها منزلة ظهرت عن مجموع هذه الآيات لم تكن الآيات تعطي تلك المنزلة على انفراد كل آية منها وليس القرآن سوى ما ذكرناه من سور وآيات وكلمات وحروف فهذا قد أعطيتك أمرا كليا في القرآن والمنازل تختلف فتختلف الآيات فتختلف الكلمات فيختلف نظم الحروف والقرآن كبير كثير لو ذهبنا نبين على التفصيل ما أومأنا إليه لم يف العمر به فوكلناك إلى نفسك لاستخراج ما فيه من الكنوز وهذا إذا جعلناه كلاما فإن أنزلناه كتابا فهو نظم حروف رقمية لانتظام كلمات لانتظام آيات لانتظام سور كل ذلك عن يمين كاتبة كما كان القول عن نفس رحماني فصار الأمر على مقدار واحد وإن اختلفت الأحوال لأن حال التلفظ ليس حال الكتابة وصفة اليد ليست صفة النفس فكونه
(٩٥)