بما من شأنه أن يمتنع فلا يمتنع لما يعلمه مما هو عليه من صفة الاقتدار على إنزاله أنتج له ذلك الأخذ بالشدائد وترك الرخص فهذا بعض أحوال أهل الوجه وأما الصنفان الآخران فللواحد منهم التكوين وللآخر التسليم فأما أهل التكوين من هذين الصنفين فتميزهم في أحوالهم ومكانهم من العالم العلوي إذا فارقوا هياكلهم بالموت وفتحت لهم أبواب السماء وعرج بأرواحهم إلى حيث أسكنوا عند السدرة المنتهى لا يبرحون بها إلى يوم النشور لأنهم في حال أعمالهم بلغوا المنتهى في بذل وسعهم فيما كلفوا من الأعمال وما توانوا بل بذلوا المجهود الذي لم يبق لهم مساغا كل على قدر طاقته فلا فرق بين من يتصدق بمائة ألف دينار إذا لم يكن له غيرها وبين من يتصدق بفلس إذا لم يكن له غيره فاجتمع الاثنان في بذل الوسع ومن هناك جوزوا وجمعهم مكان واحد وهو سدرة المنتهى التي غشاها من نور الله ما غشي فلا يستطيع أحد أن ينعتها وقد تبين مثل هذا في قول الشارع سبق درهم ألفا لأن صاحب الدرهم لم يكن له سواه فبذله لله ورجع إلى الله لأنه لم يكن له مستند يرجع إليه سواه وصاحب الألف أعطى بعض ما عنده وترك ما يرجع إليه فلم يرجع إلى الله فسبقه صاحب الدرهم إلى الله وهذا معقول فلو بذل صاحب الألف جميع ما عنده مثل صاحب الدرهم لساواه في المقام فما اعتبر الشارع قدر العطاء وإنما اعتبر ما يرجع إليه المعطي بعد العطاء فهو لما رجع إليه فالراجعون إلى الله هم المفلسون من كل ما سوى الله وإن كان صاحب الجدة ممن يرى الحق في كل صورة فما يدرك رتبة من يراه في لا شئ فإنه يراه في ارتفاع النسب والإطلاق وعدم التقييد ولا شك أن الحق إذا تقيد للمتجلي له في صورة فإن الصورة تقيد الرائي وهو تعالى عند كل راء في صورة لا يدركها الآخر فلا يدرك مطلق الوجود إلا المفلس الذي ذهبت الصور عن شهوده كما قال في الظمآن حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فنفى شيئية المقصود ووجد الله عنده يعني عند لا شئ فإنه ليس كمثله شئ وهو غني عن العالمين فلا يدركه إلا من أفلسه الله من العالمين والمفلس من العالمين في غاية الغني عن العالمين لما تقطعت به الأسباب رده الحق إليه فعلم لمن رجع وبما ذا رجع فرجع بالإفلاس لمن له الغني عنه فعرف الحق حقا فاتبعه فحق عينه عدم وشهود وحق ربه وجود وشهود قال ص صاحب الكشف الأتم إن أصحاب الجد محبوسون والمحبوس مقيد والمفلس ما له جد يقيده ولا يحبسه فهو مطلق عن هذا التقييد الذي لأصحاب الجد فهو أقرب إلى الصورة بالإطلاق من أصحاب الجد لتقيدهم فأصحاب الجد في رتبة من يرى الحق في الأشياء فيقيده بها ضرورة لأن المقام يحكم عليه والمفلس محمدي لا مقام له فإنه قيل له ليس لك من الأمر شئ فأفلسه وليس الجد إلا لمن له الأمر فكل من له الأمر فهو صاحب جد لأن الأمر للتكوين فما أراده كان فليس بمفلس ومن خرج عن حقيقته فقد زل عن طريقه فما للخلق وللتكوين إن قال أو أمر بحق فالتكوين للحق لا له كما قال فيمن له التكوين فيكون طائرا بإذني وفي آية أخرى فيكون طائرا بإذن الله فأعطاه وجرده فالبقاء على الأصل أولى وهو قوله لأكرم الناس عليه وأتمهم في الشهود وأعلاهم في الوجود ليس لك من الأمر شئ فأفلسه يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا فإن الله ينشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى إنها كانت فيما لا يعلم أفلا تذكرون فأهل الله لا يبرحون في موطن الإفلاس فهم في كل نفس على بينة لا على لبس من علم جديد لم يكن عنده فإنه ينشئه دائما فيما لا يعلم فليس بصاحب نظر وتدبير ولا روية إذ لا يكون النظر إلا في مواد وجودية وهي الحدود التي حبستهم عن العلم بالله فهم في لبس من خلق جديد وهم فيه وهم لا يشعرون فإذا دخلوا الجنة يوم القيامة فلا ينزلون منها إلا فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وإذا لم يخطر على القلب وله مقام التقليب في الوجوه فما ظنك بالعقل الذي لا تقليب عنده جعلنا الله من هؤلاء المفلسين وحال بيننا وبين مقام أهل الجد المحبوسين ثم إن أصحاب التكوين الذين لهم القوة الإلهية في إيجاد الأعيان إذا شاهدوا نضد العالم وترتيبه وإنه ما بقي فيه خلاء يعمره تكوينهم علموا عند ذلك أن الله قد حال بينهم وبين إيجاد المعدوم وليس التكوين الحقيقي إلا ذلك فما حصل بأيديهم من التكوين إلا تغير الأحوال وهو الموجود في العامة فيكون قائما فيقعد أو قاعدا فيقوم أو ساكنا فيتحرك أو متحركا فيسكن ليس في قدرته غير ذلك فإن التكوين الذي هو إيجاد المعدوم ما بقي له مكان في العالم يظهر فيه فزالت الأمكنة بما عمرته من صور العالم وأعيانه من حيث جوهره وما زالت
(١٠٥)