الذين يفصلون الأمور بالنظر العقلي لا بالإعلام الإلهي فما فصل بالإعلام الإلهي فهو كله عمل صالح وما فصل بالنظر العقلي فمنه صالح وغير صالح بالنسبة إلى تفصيله لا غير والكل عمل صالح بالنسبة إلى الله تعالى كما يقول إن النقص في الوجود من كمال الوجود وإن شئت قلت من كمال العالم إذ لو نقص النقص من العالم لكان ناقصا فافهم واعلم أنه ما كنا نقول بالعمل غير الصالح ولا بالفساد أدبا مع العلم الإلهي وحقيقة ولكن لما رأينا في الوضع الإلهي قد حذر الله من الفساد وقال ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين وقال تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ورأينا في العرف بين العقلاء بل الناس أجمعين ذكر الفساد لذلك أقدمنا على ذكره وإنما كنا نقول في ذلك بدل الفساد إظهار صورة وإزالة أخرى كما هو الأمر في نفسه من أجل تركيب خاص ونظام مزاج طبيعي فأما قوله إن الله لا يحب المفسدين فالمراد به تغيير الحكم الإلهي لا تغيير العين ولا إبدال الصورة وأما قوله علوا في الأرض فهو أمر محقق لأن العلو لا تقبله الأرض ما دامت أرضا لمن هي له أرض وكل ما نراه عاليا شامخا فيها فهو جبل ووتد تقلها الله به ليسكن ميدها فالجبال ليست أرضا فخلق الله الأرض مثل الكرة أجزاء ترابية وحجرية ضم الله بعضها إلى بعض فلما خلق الله السماء بسط الأرض بعد ذلك ليستقر عليها من خلقت له مكانا ولذلك مادت ولو بقيت الكرة ما مادت وما خلق الجبال فخلق سبحانه الجبال فقال بها عليها دفعة واحدة وأدار بالماء المحيط بها جبلا جعله لها كالمنطقة قيل إن عليه أطراف قبة السماء وأن الزرقة التي نسبها إلى السماء ونصفها بها فتلك اللونية لجرم السماء لبعدها عنك في الإدراك البصري كما ترى الجبال إذا بعدت عنك رزقا وليست الزرقة لها إلا لبعدها عن نظر العين كما ترى الجبل البعيد عن نظرك أسود فإذا جئته قد لا يكون كما أبصرته وقد بينا لك أن الألوان على قسمين لون يقوم بجسم المتلون ولون يحدث للبصر عند نظره إلى الجسم لأمر عارض يقوم بين الرائي والمرئي مثل هذا ومثل الألوان التي تحدث في المتلون باللون الحقيقي لهيئات تطرأ فيراها الناظر على غير لونها القائم بها الذي يعرفه وذلك مثل الشبهات في الأدلة فهي ألوان لا ألوان وحظها من الحقائق الإلهية وما رميت إذ رميت وأنت لا أنت وكالعالم كله بالحقيقة هو خلق لا خلق أو حق لا حق وكالخيال هو حس لا حس ومحسوس لا محسوس أعني المتخيل والأرض منفعلة عن الماء المنفعل عن الهواء فإن الهواء هو الأصل عندنا ولذلك هو أقرب نسبة إلى العماء الذي هو نفس الرحمن فجمع بين الحرارة والرطوبة فمن حرارته ظهر ركن النار ومن رطوبته ظهر ركن الماء ومن جمود الماء كان الأرض فالهواء ابن للنفس وهو العماء والنار والماء ولدان للهواء والأرض ولد الولد وهو ما جمد من الماء وما لم يجمد بقي ماء على أصله والأرض على ذلك الماء وقد رأينا في نهر الفرات إذا جمد في الكوانين ببلاد الشمال يعود أرضا تمشي عليه القوافل والناس والدواب والماء من تحت ذلك الجليد جار وذلك الماء على الهواء وهو الذي يمده برطوبته فيحفظ عليه عينه واستقراره عليه فإن الهواء يجري الماء إذا تحرك وإذا احتقن وسكن سكن الماء عليه فلا ينفذ الماء فيه وقد رأينا ذلك في أنبوب القصب وأمثاله المنفوذ الثقب إذا ملأته ماء وسددت موضع الثقب الأعلى من الأنبوب لا يجري من أسفل الأنبوب شئ من الماء فإذا أزالته جرى الماء فلم يعتمد ذلك الماء إلا على الهواء الساكن لسكونه وهو صورة تعم العالم كله وإذا تموج الهواء سمي ريحا والريح تنقل روائح ما تمر عليه من طيب وخبيث إلى المشام وكذلك تنقل برودة الأشياء وحرارتها ولذلك توصف الريح بأنها نمامة وتوصف بنقل الأخبار إلى السامعين ولا يتلقى منها هذه الأمور التي تتم بها وتخبر عنها إلا قوة السمع والشم إلى السامعين والشامين وحركات الأجرام تحرك الهواء فتحدث له اسم الريح والهواء يحرك الأجرام وفيه تتحرك الأجرام وأما الخرق فما هو إلا تفريغ أحياز عن أشياء واشتغالها بأشياء غير تلك الأشياء لأنه ما فيما عمره العالم خلاء وإنما هي استحالات صور فصور تحدث الأمور وصور تذهب الأمور والجوهر الذي ملأ الخلاء ثابت العين لا يستحيل إلى شئ ولا يستحيل إليه شئ وليس للأسماء الإلهية متعلق إلا إحداث هذه الصور واختلافها وأما ذهابها فلنفسها وأما ذهابها فلما تقتضيه
(٤٥٩)