على أنه واحد فالكون كله جسم وروح بهما قامت نشأة الوجود فالعالم للحق كالجسم للروح وكما لم يعرف الروح إلا من الجسم فإنا لما نظرنا فيه ورأينا صورته مع بقائها تزول عنها أحكام كنا نشاهدها من الجسم وصورته من إدراك المحسوسات والمعاني فعلمنا إن وراء الجسم الظاهر معنى آخر هو الذي أعطاه أحكام الإدراكات فيه فسمينا ذلك المعنى روحا لهذا الجسم فكذلك ما علمنا أن لنا أمرا يحركنا ويسكننا ويحكم فينا بما شاء حتى نظرنا في نفوسنا فلما عرفنا نفوسنا عرفنا ربنا حذوك النعل بالنعل ولهذا أخبر في الوحي بقوله من عرف نفسه عرف ربه وفي الخبر المنزل الإلهي سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق فما ظهر العالم عن الله إلا بصورة ما هو الأمر عليه وما في الأصل شرفا لي من تستند الشرور والعالم في قبضة الخير المحض وهو الوجود التام غير أن الممكن لما كان للعدم نظر إليه كان بذلك القدر ينسب إليه من الشر ما ينسب إليه فإنه ليس له من ذاته حكم وجوب الوجود لذاته فإذا عرض له الشر فمن هناك ولا يستمر عليه ولا يثبت فإنه في قبضة الخير المحض والوجود ثم من تمام المعرفة الموضوعة في العلم بالله أن للجسم في الروح آثارا معقولة معلومة لما يعطيه من علوم الأذواق وما لا يمكن أن يعلمها إلا به وأن الروح له آثار في الجسم محسوسة يشهدها كل حيوان من نفسه كذلك العالم مع الحق لله فيه آثار ظاهرة وهي ما يتقلب فيه العالم من الأحوال وذلك من حكم اسمه الدهر وأخبر الحق سبحانه أن للعالم من حيث ما كلفه آثارا لولا تعريفه إيانا بها ما عرفناها وذلك أنه إذا اتبعنا رسوله فيما جاءنا به من طاعة الله أحبنا وأرضيناه فرضي عنا وإذا خالفناه ولم نمتثل أمره وعصيناه أخبرنا إنا أسخطناه وأغضبناه فغضب علينا وإذا دعوناه أجابنا فالدعاء من أثره والإجابة من أثرنا ذلك لتعلموا أنه ما أظهر شيئا إلا من صورة ما هو هو ويستحيل أن يكون الأمر إلا كذلك وإلا فمن أين وما ثم إلا هو ولا يعطي الشئ إلا ما في قوته ولهذا نعت الحق لنا نفسه بنعوت المحدثات عندنا وهي في الحقيقة نعوته ظهرت فينا ثم ما عادت عليه ونعتنا سبحانه بنعوت ما يستحقه جلاله فهي نعوته على الحقيقة فلو لا ما أوجدنا على صورة ما هو عليه في نفسه ما صح ولا ثبت أن نقبل صفة مما وصفنا بها مما هي حق له ولا كان يقبل صفة مما وصف بها نفسه مما هي حق لنا والكل حق له فهو الأصل الذي نحن فرعه والأسماء أغصان هذه الشجرة أعني شجرة الوجود ونحن عين الثمر بل هو عين الثمر فما لنا مثل سوى وجود هذا الشجر ومن تمام المعرفة بالله ما أخبرنا به على لسان رسوله ص من تحوله تعالى في الصور في مواطن التجلي وذلك أصل تقلبنا في الأحوال باطنا وظاهرا وكل ذلك فيه تعالى وكذلك هو تعالى في شؤون العالم بحسب ما يقتضيه الترتيب الحكمي فشأنه غدا لا يمكن أن يكون إلا في غد وشأن اليوم لا يمكن أن يكون إلا اليوم وشأن أمس لا يمكن أن يكون إلا في أمس هذا كله بالنظر إليه تعالى وأما بالنظر إلى الشأن يمكن أن يكون في غير الوقت الذي تكون فيه لو شاء الحق تعالى وما في مشيئته جبر ولا تحير تعالى الله عن ذلك بل ليس لمشيئته إلا تعلق واحد لا غير ومنها قوله سنفرغ لكم أيه الثقلان يعني منكم ومن العالم الذي هو سوانا وإنما سمانا بالثقلين لما فينا من الثقل وهو عين تأخرنا بالوجود فأبطأنا ومن عادة الثقيل الإبطاء كما أنه من عادة الخفيف الإسراع فنحن والجن من الثقلين ونحن أثقل من الجن للركن الأغلب علينا وهو التراب فالإنسان آخر موجود في العالم لأن المختصر لا يختصر إلا من مطول وإلا فليس بمختصر فالعالم مختصر الحق والإنسان مختصر العالم والحق فهو نقاوة المختصر أعني الإنسان الكامل وأما الإنسان الحيوان فإنه مختصر العالم وله يفرع الحق ليقيم عليه ميزان ما خلق له فإن قوله سنفرغ لكم أيه الثقلان كلمة تهديد والإنسان الكامل لا يتوجه عليه هذا الخطاب غير إن في هذه الكلمة إشارة للحوق الرحمة بهما أعني الثقلين وذلك في فتح اللام الداخلة على ضمير المخاطب في لكم وإن كان الفتح الإلهي قد يكون بما يسوء كما يكون بما يسر ولكن رحمته سبقت غضبه وجاء بآلة الاستقبال وهو السين وآخر درجة الاستقبال ما يؤول إليه أمر العالم من الرحمة التي لا غضب بعدها لارتفاع التكليف واستيفاء الحدود ولما جاء بضمير الخطاب في قوله لكم وعلمنا من الكرم الإلهي أبدا أنه يرجح جانب السعداء وجانب الرحمة على النقيض ولهذا سمي ما يتألم به أهل الشقاء عذابا لأن السعداء يستعذبون آلام أهل الشقاء إيثار الجناب الحق حيث أشركوا فلهم في أسباب الآلام نعيم فسمى الحق ذلك عذابا إيثارا لهم حين آثروه
(٣١٥)