وأنت في هذا كله فيها ما خرجت عنها فإن استعملك الهوى أرداك وهلكت وإن استعملك العقل الذي بيده سراج الشرع نجوت وأنجاك الله به فإن العقل السليم المبرأ من صفات النقص والشبه هو الذي فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمور على ما هي عليه فعاملها بطريق الاستحقاق فأعطى كل ذي حق حقه ومن لم يعبد الله في أرض بدنه الواسعة فما عبد الله في أرضه التي خلق منها فإن الله يقول وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين وهو الماء الذي نبع من هذه الأرض البدنية واستقر في رحم المرأة ثم سواه فبعد تسوية أرض البدن وقبوله الاشتعال بما فيه من الرطوبة والحرارة نفخ الله فيه فاشتعل فكان ذلك الاشتعال روحا له فما خرج إلا منه فمنه خلق وجعل العقل في هذه النشأة نظير القمر في الأرض نورا يستضاء به ولكن ما له ذلك النفوذ بالحجب المانعة من البيوت والجدران والأكنة وجعل الشرع لهذا العقل في هذه الأرض البدنية سراجا فأضاءت زوايا هذه الأرض بنور السراج فأعطى من العلم بها مما فيها ما لم يعطه نور العقل الذي هو بمنزلة القمر ثم يعيدنا فيها يعني في النشأة الأخرى أيضا كما خلقنا فيها ويخرجنا إخراجا لمشاهدته كما أنشأنا منها وأخرجنا لعبادته فخلق أرواحنا من أرض أبداننا في الدنيا لعبادته وأسكننا أرض أبداننا في الآخرة لمشاهدته إن كنا سعداء كما آمنا به في النشأة الأولى لما اعتنى الله بنا والحال مثل الحال سواء في تقسيم الخلق في ذلك وكذلك يكونون غدا والموت بين النشأتين حالة برزخية تعمر الأرواح فيها أجسادا برزخية خيالية مثل ما أعمرتها في النوم وهي أجساد متولدة عن هذه الأجسام الترابية فإن الخيال قوة من قواها فما برحت أرواحها منها أو مما كان منها فاعلم ذلك فارض الله التي هي ركن موجودة وأنت فيها مدفون وما أمرت بعبادة ربك وما دمت في أرض بدنك الواسعة مع وجود عقلك وسراج شرعك فأنت مأمور بعبادة ربك فهذه الأرض البدنية لك على الحقيقة أرض الله الواسعة التي أمرك أن تعبده فيها إلى حين موتك ومن مات فقد قامت قيامته وهي القيامة الجزئية وهو قوله وفيها نعيدكم فإذا فهمت القيامة الجزئية بموت هذا الشخص المعين علمت القيامة العامة لكل ميت كان عليها فإن مدة البرزخ هي للنشأة الآخرة بمنزلة حمل المرأة الجنين في بطنها ينشئه الله نشأ بعد نش ء فتختلف عليه أطوار النش ء إلى أن يولد يوم القيامة فلهذا قيل في الميت إنه إذا مات فقد قامت قيامته أي ابتدأ فيه ظهور نشأة الأخرى في البرزخ إلى يوم البعث من البرزخ كما يبعث من البطن إلى الأرض بالولادة فتدبير نشأة بدنه في الأرض زمان كونه في البرزخ ليسويه ويعدله على غير مثال سبق مما ينبغي للدار الآخرة فيعبده فيها أعني في أرض نشأته الأخراوية عبادة ذاتية لا عبادة تكليف فإن الكشف يمنعه إن يكون عبدا لغير من يستحق أن يكون له عبدا كما ينال هذا المقام رجال الله هنا ولما خلق الله أرض بدنك جعل فيها كعبة وهو قلبك وجعل هذا البيت القلبي أشرف البيوت في المؤمن فأخبر إن السماوات وفيها البيت المعمور والأرض وفيها الكعبة ما وسعته وضاقت عنه ووسعه هذا القلب من هذه النشأة الإنسانية المؤمنة والمراد هنا بالسعة العلم بالله سبحانه فهذا يدلك على أنها الأرض الواسعة وأنها أرض عبادتك فتعبده كأنك تراه من حيث بصرك لأن قلبك محجوب أن يدركه بصرك فإنه في الباطن منك فتعبد الله كأنك تراه في ذاتك كما يليق بجلاله وعين بصيرتك تشهده فإنه ظاهر لها ظهور علم فتراه بعين بصيرتك وكأنك تراه من حيث بصرك فتجمع في عبادتك بين الصورتين بين ما يستحقه تعالى من العبادة في الخيال وبين ما يستحقه من العبادة في غير موطن الخيال فتعبده مطلقا ومقيدا وليس ذلك لغير هذه النشأة فلهذا جعل هذه النشأة المؤمنة حرمه المحرم وبيته المعظم المكرم وقد أشرت إلى هذا المعنى بقولي من كان حقا كله * قد زال عنه كله * فالحق شخص قائم * وأنت منه ظله أو أنت فيه ظله * فالأمر حق كله * حرامه محترم * فالحل لا يحله عن كل ما لا ينبغي * فإنه يجله فكل من في الوجود من المخلوقات يعبد الله على الغيب إلا الإنسان الكامل المؤمن فإنه يعبده على المشاهدة ولا يكمل
(٢٥٠)