الله مرمى فجعل مسكنه في أشرف الأماكن وهو النقطة التي يستقر عليها عمد الخيمة وجعل العرش المحيط مكان الاستواء الرحماني كما يليق بجلاله أعلاما بالارتباط الإلهي الذي بين العرش والأرض وما بينهما من مراتب العالم المتحيز العام للمساحات من الأفلاك والأركان فجميع العالم في جوف العرش إلا الأرض فإنها مقر السرير فلما أراد الله أن يخلقنا لعبادته قرب الطريق علينا فخلقنا من تراب في تراب وهو الأرض التي جعلها الله ذلولا والعبادة الذلة فنحن الأذلاء بالأصل لا نشبه من خلق نورا من النور وأمر بالعبادة فبعدت عليهم الشقة لبعد الأصل مما دعاهم إليهم من عبادته فلو لا إن الله أشهدهم بأن خلقهم في مقاماتهم ابتداء لم ينزلوا منها فلم يكن لهم في عبادتهم ارتقاء كما لنا ما أطاقوا الوفاء بالعبادة فإن النور له العزة ما له الذلة فمن عناية الله بنا لما كان المطلوب من خلقنا عبادته إن قرب علينا الطريق بأن خلقنا من الأرض التي أمرنا أن نعبده فيها ولما عبد منا من عبد غير الله غار الله أن يعبد في أرضه غيره فقال وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه أي حكم فما عبد من عبد غير الله إلا لهذا الحكم فلم يعبد إلا الله وإن أخطئوا في النسبة إذ كان لله في كل شئ وجه خاص به ثبت ذلك الشئ فما خرج أحد عن عبادة الله ولما أراد الله أن يميز بين من عبده على الاختصاص وبين من عبده في الأشياء أمر بالهجرة من الأماكن الأرضية التي بعبد الله فيها في الأعيان ليميز الله الخبيث من الطيب فالخبيث هو الذي عبد الله في الأغيار والطيب هو الذي عبد الله لا في الأغيار وجعل تعالى هذه الأرض محلا للخلافة فهي دار ملكه وموضع نائبه الظاهر بأحكام أسمائه فمنها خلقنا وفيها أسكننا أحياء وأمواتا ومنها يخرجنا بالبعث في النشأة الأخرى حتى لا تفارقنا العبادة حيث كنا دنيا وآخرة وإن كانت الآخرة ليست بدار تكليف ولكنها دار عبادة فمن لم يزل منا مشاهدا لما خلق له في الدنيا والآخرة فذلك هو العبد الكامل المقصود من العالم النائب عن العالم كله الذي لو غفل العالم كله أعلاه وأسفله زمنا فردا عن ذكر الله وذكره هذا العبد قام في ذلك الذكر عن العالم كله وحفظ به على العالم وجوده ولو غفل العبد الإنساني عن الذكر لم يقم العالم مقامه في ذلك وخرب منه من زال عنه الإنسان الذاكر قال النبي ص لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول الله الله ولما خلق الله هذه النشأة الإنسانية وشرفها بما شرفها به من الجمعية ركب فيها الدعوى وذلك ليكمل بها صورتها فإن الدعوى صفة إلهية قال تعالى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني فادعى أنه لا إله إلا هو وهي دعوى صادقة فمن ادعى دعوى صادقة لم تتوجه عليه حجة وكان له السلطان على كل من رد عليه دعواه لأن له الشدة والغلبة والقهر لأنه صادق والصدق الشدة فلا يقاوم ولما كانت الدعوى خبرا والخبر نسبة الصدق إليه ونسبة الكذب على السواء بما هو خبر يقبل هذا وهذا علمنا عند ذلك أنه لا بد من الاختبار فادعى المؤمن الايمان وهو التصديق بوجود الله وأحديته وأنه لا إله إلا هو وأن كل شئ هالك إلا وجهه وأن الأمر لله من قبل ومن بعد فلما ادعى بلسانه إن هذا مما انطوى عليه جنانه وربط عليه قلبه احتمل أن يكون صادقا فيما ادعاه إنه صفة له ويحتمل أن يكون كاذبا في إن ذلك صفة له فاختبره الله لإقامة الحجة له أو عليه بما كلفه من عبادته على الاختصاص لا العبادة السارية بسريان الألوهة ونصب له وبين عينيه الأسباب وأوقف ما تمس حاجة هذا المدعي على هذه الأسباب فلم يقض له بشئ إلا منها وعلى يديها فإن رزقه الله نورا يكشف به ويخترق سدف هذه الأسباب فيرى الحق تعالى من ورائها مسببا اسم فاعل أو يراه فيها خالقا وموجدا لحوائجه التي اضطره إليها فذلك المؤمن الذي هو على نور من ربه وبينة من أمره الصادق في دعواه الموفي حق المقام الذي ادعاه بالعناية الإلهية التي أعطاه ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور فقال بعد إقراره بربوبية خالقه لما أشهده على نفسه في أخذ الميثاق حين قال له ولأمثاله ألست بربكم قالوا بلي فلما أوجده في هذه الدنيا أوجده على تلك الفطرة فقال بألوهية الأسباب التي رزقه الله منها وجعلها حجبا بينه وبين الله ولم يكن له نور يهتدى به في ظلمات البر والبحر وليس إلا النجوم وهي هنا نجوم العلم الإلهي فأضاف الألوهة إلى غير مستحقها فكذب في دعواه لكثرة الأسباب وإقراره في شركه بأن ذلك قربة منه إلى الله خالق الأسباب وجعلها آلهة فلم يصدق قوله لا إله إلا هو ولهذا قال من قال أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب وليس العجب إلا ممن كثر الآلهة والذي لم يقل بنسبة الألوهة للأسباب لكنه لم ير إلا الأسباب وما حصل له
(٢٤٨)