أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له هل رأيت نعيما قط فيقول لا والله ومعلوم أنه رأى نعيما ولكن حجبه شاهد الحال عن ذلك النعيم فنسيه وكذلك صاحب البؤس إذا غمس في الجنة غمسة يقال له هل رأيت بؤسا قط فيقول لا والله ما رأيت بؤسا قط فكذلك لو ردوا لكانوا بحسب النشأة والحال التي يردون فيها وأما عصاة المؤمنين فإنهم عالمون بإنفاذ الوعيد ولكن لا يعلمون فيمن فلو تعين لواحد منهم أنه هو الذي ينفذ فيه الوعيد لما قدم على سببه الذي علم أنه يحصل له إنفاذ الوعيد به وإذا جبر في اختياره فذلك لا يعلمه لأنه لا يجد ذلك من نفسه فإن الأمر في ذلك مشترك وقد تقدم قبل هذا الكلام عليه في بعض المنازل فمن شهد الجبر في اختياره علما من طريق الكشف والشهود أتى المخالفة بحكم التقدير لا بحكم الانتهاك فكان عاملا بما علم فلم يضره ذلك العمل بل هو مغفور له واعلم أن هذا القدر الذي ذكرناه في هذه المسألة هو من العلم الذي ورد فيه الخبر الذي لفظه أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العالمون بالله فإذا نطقوا به لم ينكره عليهم إلا أهل الغرة بالله وهذا من طريق الكشف عند أهله حديث صحيح مجمع عليه عندهم خاصة عرفوه وتحققوه فجعله كهيئة المكنون ما جعله مكنونا إذ لو كان مكنونا لانفرد به تعالى فلما لم يعلمه إلا العلماء بالله علمنا إن العلم بالله يورث العلم بما يعلمه الله فهو مستور عن العموم معلوم للخصوص ومعنى العلم بالله أنه لا يعلم فقد علمنا إن ثم ما لا يعلم على التعيين وما عداه فيمكن العلم به فأكنة هذا العلم قلوب العلماء بالله فإذا نطقوا به فيما بينهم إذ لا يصح النطق به إلا على هذا الحد واتفق أن يكون في المجلس من ليس من أهله ولا من أهل الله فإن أهل الله هم أهل الذكر وهم العلماء بالله أنكره عليهم أهل الغرة بالله فأضاف أهليتهم إلى الغرة وهم الذين يزعمون أنهم عرفوا الله فمن العلم الذي هو كهيئة المكنون وما هو بمكنون هذا العلم فإن العلم المكنون يعلم شهودا ولا ينقال بخلاف علوم الفكر فإنها كلها تنقال فإذا حصلت أيضا لصاحب الكشف من غير فكر ولا روية فإنها تنقال من غير دليل فيقبلها منه العالم بالدليل فهذا العلم هو الذي كهيئة المكنون لأن العالم به غير عالم بالدليل فاعلم إن الديار داران دار تسكنها الأرواح الناطقة وهو البدن الطبيعي المسوي المعدل الذي خلقه الله بيديه ووجه عليه صفتيه فلما أنشأه أسكنه دار أخرى هي دار الدار وقسم سبحانه دار الدار قسمين قسما سماه الدنيا وقسما سماه الآخرة ثم علم ما يصلح لسكنى كل دار من الساكنين الذين هم ديار النفوس الناطقة فخلق للدار الدنيا لفنائها وذهاب عينها وتبدل صورتها ووضعها وشكلها وخفاء حياتها ساكنا هو هذه الدار التي أسكنها النفس الناطقة فجعل هذه النشأة مثل دار سكناها خفية الحياة فانية ذاهية العين متبدلة الصورة والوضع والشكل فاتصف ساكنها وهو النفس الناطقة بالجهل والحجاب والشك والظن والكفر والايمان وذلك لكثافة هذه الدار التي هي نشأته البدنية وحال بينه وبين شهود الله وجعله في حجر أمه ترضعه وتقوم به فما شهد من حين أسكن هذه النشأة سوى عين أمه حتى أنه جهل أباه بعض الساكنين ولولا إن الله من عليه بالنوم وجعل له في ذلك أمرا يسمى الرؤيا في قوة تسمى الخيال فإذا نام كأنه خرج عن هذه النشأة فنظر إليه أبوه وسر به وألقى إليه روحا وآنسه وبادرت إليه الأرواح وتراءى له الحق من تنزيهه وبدا له ذلك كله في أجساد ألف شهودها من جنس دار نشأته التي فارقها بالنوم فيظن في النوم أنه في دار نشأته التي ألفها ويعرفها ويظن في كل ما يراه في تلك المواد أنها على حسب ما شهدها فهذا القدر هو الذي له في هذه النشأة الدنيا من الأنس بأبيه وإخوانه من الأرواح ومن الأنس بربه ومنهم من يتقوى في ذلك بحيث إنه يرى ذلك في يقظته وأعطاه علما سماه علم التعبير عبر به في مشاهدة تلك الصور إلى معانيها فإذا أراد الله أن يخلي هذه الدار الدنيا من هذه النشأة التي هي دار النفس الناطقة أرحل عن هذه النشأة روحها المدبر لها وأسكنه صورة برزخية من الصور التي كان يلبسها في حال النوم فإذا كان يوم القيامة وأراد الله أن ينقله إلى الدار الأخرى دار الحيوان وهي دار ناطقة ظاهرة الحياة ثابتة العين غير زائلة أنشأ لهذه النفس الناطقة دارا من جنس هذه الدار الأخرى مجانسة لها في صفتها لأنها لا تقبل ساكنا لا يناسبها فخلق نشأة بدنية طبيعية للسعداء عنصرية للأشقياء فسواها فعدلها ثم أسكنها هذه النفس الناطقة فأزال عنها حجب العمي والجهل والشك والظن وجعلها صاحبة علم ونعيم دائم وأراها أباها ففرحت به وأراها خالقها ورازقها وعرف بينها وبين إخوتها وانتظم الشمل بالأحباب
(٢٤٤)