اعلم أيدك الله بروح منه أن الله لما خلق النفس الناطقة المدبرة لهذا الهيكل المسمى إنسانا سلط عليه في هذا المزاج الخاص بهذه النشأة الدنيوية ثلاثة أشياء جعلها من لوازم نشأته النفس النباتية والنفس الشهوانية والنفس الغضبية فأما النفس النباتية والغضبية فيزولان في نشأة أهل السعادة في الجنان ولا يبقى في تلك النشأة إلا النفس الشهوانية فهي لازمة للنشأتين وبها تكون اللذة لأهل النعيم وأما النفس النباتية فهي التي تطلب الغذاء لتجبر به ما نقص منه فينمي به الجسم فلا ينفك يتغذى دائما فأما من خارج يجلب إليها وهو المعبر عنه بالأكل وإما من حيث شاء الله من غير تعيين ولها أربعة وزعة الجاذب والماسك والهاضم والدافع فأما الجاذب فحكمه أن ينقل الغذاء من مكان إلى مكان فينقله من الفم إلى المعدة ومن المعدة إلى الكبد ومن الكبد إلى القلب وإلى سائر العروق وأجزاء البدن فإنه المقسم على أجزاء البدن ما يحتاج إليه مما يكون به قواها ويساعده الدافع فإنه يدفع به عن مكانه إذا رآه قد استوفى حقه من ذلك المكان وما بقي له فيه شغل ودفع به حتى لا يزاحم غيره إذا ورد فهو يساعد الجاذب وأما الماسك فهو الذي يمسكه في كل مكان حتى بأخذ التدبير فيه حقه فإذا رأى أنه وفى حقه ترك يده عنه فتولاه الدافع والجاذب وأما الهاضم فهو الذي يغير صورة الغذاء ويكسوه صورة أخرى حتى يكون على غير الصورة التي كان عليها فإنه كان على صورة حسنة وذا رائحة طيبة فلما حصل بيده وغير صورة شكله وكساه صورة متغيرة لريح مبددة النظم ولهذا سمي هاضما من الاهتضام ولكن وجود الحكمة في هذا الاهتضام فإنه لولا الهضم ما وجد المقصود الذي قصده الغاذي بالغذاء فظاهر الأمر فساد وباطنه صلاح ولا يزال هذا الهاضم بنقله من صورة إلى صورة والماسك يمسك عليه بقاءه حتى يدبر فيه ما يعطيه علمه وما وكل به فإذا استوفياه بحسب ذلك الموطن تركاه وأخذه الجاذب والدافع فإذا أنزلاه ونقلاه إلى المكان الآخر رداه إلى الماسك وإلى الهاضم فيفعلان فيه مثل ما فعلاه في المكان الذي قبله ويفتح فيه صورا مختلفة فيأخذه الجاذب والدافع فيسلكان بتلك الصور طرقا معينة لا يتعديانها ما دام يريد الله إبقاء هذه النشأة الطبيعية ولولا هؤلاء الوزعة ما تمكنت النفس النباتية من مطلوبها فإذا أراد الله هلاك هذه النشأة الطبيعية طلبت النفس النباتية مساعدة الشهوة لها حتى تنبعث النفس المدبرة لجلب ما تشتهي فلم تفعل وأضعفها الله باستيلاء سلطان الحرارة على محلها فضعفت كما يضعف السراج في نور الشمس فيبقى لا حكم له فتبقى النفس النباتية بحقيقتها تقول لوزعتها لا بد لي من شئ أتغذى به فتتغذى بأخلاط البدن وما بقي فيه من الفضول ووزعتها قد ضعفوا أيضا مثلها فلا تزال النشأة في نقص متزايد والدافع يقوى والجاذب يضعف وكذلك الماسك إلى أن يموت الإنسان ولولا هذا التدبير بهذه الآلاة لهذه النشأة ما سمعت أذن ولا نظر بصر ولا كان حكم لشئ من هذه القوي الحسية والمعنوية وأما النفس الشهوانية فسلطانها في هذا الهيكل طلب ما يحسن عندها ولا تعرف هل يضرها ذلك أو ينفعها وهذا ليس إلا في نشأة الإنسان وأما سائر الحيوان فلا يتناول الغذاء إلا بالإرادة لا بالشهوة ليدفع عن نفسه ألم الجوع والحاجة فلا يقصد إلا لما له فيه المنفعة ويبقى حكم الشهوة في الحيوان في الاستكثار من الغذاء فمنه يدخل عليه الخلل والإنسان يدخل عليه الخلل كذلك من الاستكثار مما ينفع القليل منه ومن تناوله ما لا ينفعه أصلا مما يطلبه الشهوة ويتضرر به المزاج فهذا الفارق بين الإنسان والحيوان في تناول الغذاء فالنفس الشهوانية للنفس النباتية كما قيل في ذلك إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت * له عن عدو في ثياب صديق فلها الصداقة مع النفس النباتية لأنها المساعدة لها على الغذاء وتناوله وهي العدوة حيث تدخل عليها من الأغذية ما يضرها ولا ينفعها فمساعدتها للنفس النباتية إنما هو بالعرض لا بالذات فهي العدو اللازم الذي لا يمكن مفارقته ولا يؤمن شره وأما النفس الغضبية وهي السبعية فهي التي تطلب القهر لما رأت من تفوقها على سائر الحيوان بما أعطيت من القوي والتمكن من التصرف وأبصرت العالم مسخرا لنشأتها ولمدبرها ورأت أن في الوجود عوارض تعرض اتفاقية أو لأسباب تظهر يمنعها ذلك كله من وصولها إلى أغراضها فتغضب لعدم حصول الغرض فإن كان لها سلطان قوي مساعد من همة فعالة أو آمرة من خارج لها بها إمضاء غضبها في المغضوب عليه أهلكته وأظهرت
(٢٣٧)