من كل شئ حتى من نفسه وجوارحه فإن الله يقول يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وقال تعالى اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون وأخبر تعالى عن بعض الناس المشهود عليهم أنهم يقولون لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله يعني بالشهادة عليكم الذي أنطق كل شئ فيا ولي لا تكن الجلود أعلم بالأمر منك مع دعواك إنك من أهل العقل والاستبصار فهذه الجلود قد علمت نطق كل شئ وأن الله منطقه بما شاء ثم قال وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم أي هذا لا يمكن الاستتار منه لأنكم ما تعملون الذي تأتونه من المنكرات إلا بالجوارح فإنها عين الآلة تصرفونها في طاعة الله أو معصيته فلا يتمكن لكم الاستتار عما لا يمكنك العمل إلا به ولكن ظننتم إن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون هذا خطاب لمن يعتقد أن الله لا يعلم الجزئيات خاصة ثم قال وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم أي أهلككم فأصبحتم من الخاسرين والخسران ضد الربح وهو نقص من رأس المال لما كان الأمر تجارة اتصف بالربح والخسران يقول تعالى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين عقيب قوله أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فلما باعوا الهدى بالضلالة خسروا وقال هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ثم ذكر ما هي التجارة فقال تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيله وإنما عدل في هذه الأمور إلى التجارة دون غيرها فإن القرآن نزل على قرشي بلغة قريش بالحجاز وكانوا تجارا دون غيرهم من الأعراب فلما كان الغالب عليهم التجارة كسى الله ذات الشرع والايمان لفظ التجارة ليكون أقرب إلى أفهامهم ومناسبة أحوالهم وبعد أن أبنت لك عن الأمور على ما هي عليه إن كنت ذا نظر أو إيمان فإني ما أخبرتك إلا بممكن ما أخبرتك بمحال فلنقل بعد هذا البيان الشافي والإيضاح الكافي لأهل طريق الله خاصة وخاصته من عباده من مكاشف ومؤمن إن البهائم ما اختصت بهذا الاسم المشتق من الإبهام والمبهم إلا لكون الأمر أبهم علينا فإنا قد بينا لك ما هي عليه من المعرفة بالله وبالموجودات وإنما سميت بذلك لما أنبهم علينا من أمرها فإبهام أمرها إنما هو من حيث جهلنا ذلك أو حيرتنا فيه فلم نعرف صورة الأمر كما يعرفه أهل الكشف فهي عند غير أهل الكشف والايمان بهائم لما نبهم عليهم من أمرها لما يرون من بعض الحيوان من الأعمال الصادرة عنها التي لا تصدر إلا عن فكر وروية صحيحة ونظر دقيق يصدر منهم ذلك بالفطرة لا عن فكر ولا روية فأبهم الله على بعض الناس أمرهم ولا يقدرون على إنكار ما يرونه مما يصدر عنهم من الصنائع المحكمة فذلك جعلهم يتأولون ما جاء في الكتاب والسنة من نطقهم ونسبة القول إليهم ليت شعري ما يفعلون فيما يرونه مشاهدة في الذي يصدر عنهم من الأفعال المحكمة كالعناكب في ترتيب الحبالات لصيد الذباب الذي جعل الله أرزاقهم فيه وما يدخره بعض الحيوان من أقواتهم على ميزان معلوم وقدر مخصوص وعلمهم بالأزمان واحتياطهم على نفسهم في أقواتهم فيأكلون نصف ما يدخرونه خوف الجدب فلا يجدون ما يتقوتون به كالنمل فإن كان ذلك عن نظر فهم يشبهون أهل النظر فأين عدم العقل الذي ينسب إليهم وإن كان ذلك علما ضروريا فقد أشبهونا فيما لا ندركه إلا بالضرورة فلا فرق بيننا وبينهم لو رفع الله عن أعيننا غطاء العمي كما رفعه الله عن أبصار أهل الشهود وبصائر أهل الايمان وفي عشق الأشجار بعضها بعضا التي لها اللقاح فإن ذلك فيها أظهر آيات لأهل النظر إذا أنصفوا واعلم أن العاقل كان من كان من أي أصناف العالم إن شئت إذا أراد أن يوصل إليك ما في نفسه لم يقتصر في ذلك التوصيل على العبارة بنظم حروف ولا بد فإن الغرض من ذلك إذا كان إنما هو إعلامك بالأمر الذي في نفس ذلك المعلم إياك فوقتا بالعبارة اللفظية المنطوق بها في اللسان المسماة في العرف قولا وكلاما ووقتا بالإشارة بيد أو برأس أو بما كان ووقتا بكتاب ورقوم ووقتا بما يحدث من ذلك المريد إفهامك بما يريد الحق أن يفهمك فيوجد فيك أثرا تعرف منه ما في نفسه ويسمى هذا كله أيضا كلاما كما قال تعالى أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم فأخبر أنها تكلمنا وذلك أنها إذا خرجت من أجياد وهي دابة أهلب كثيرة الشعر لا يعرف قبلها من دبرها يقال لها الجساسة فتنفخ فتسم بنفخها وجوه الناس شرقا وغربا جنوبا وشمالا برا وبحرا فيرتقم في جبين كل شخص ما هو عليه في علم الله من إيمان وكفر فيقول من سمته مؤمنا لمن
(٢٥٩)