مرتبته في قلب الملك قبل طلب تلك الحاجة ووزنتها بعد طلب الحاجة نقصت عنها بقدر ما طلب فصفة الحق تعالى حيثما ظهرت محبوبة مطلوبة عند الناس الذين لا يفرقون بين ظهورها عند من يستحقها وبين ظهورها عند من لا يستحقها ولو علم هذا الجاهل أن أفقر الناس إلى المال أكثرهم مالا وذلك أن صاحب الفقر المدقع محتاج بالضرورة إلى ما يسد به خلته فهو فقر ذاتي والغني بالمال مع كثرة ماله بحيث لو قسمه على عمره وعمر بنيه وحفدته لكفاهم ومع هذا يترك أهله وولده ويسافر بماله ويخاطر به في البحار والأعداء وقطع المفازات إلى البلاد القاصية شرقا وغربا في اقتناء درهم زائد على ما عنده لشدة فقره إليه وربما هلك في طلب هذه الزيادة وغرق ماله أو أخذ وربما استؤسر في سفره أو قتل ومع هذه المعضلات كلها لا يترك سفرا في طلب هذه الزيادة فلو لا جهله وشدة فقره ما خاطر بالأنفس في طلب الأخس فالفقير الزاهد يرى أن هذا الغني أفقر منه بكثير وهو في فقره مذموم وأن هذا الزاهد لولا غناه بربه عن هذه الأعراض لكان أشد حرصا في طلبها من التجار والملوك ولنا في هذا المعنى أبيات منها بالمال ينقاد كل صعب * من عالم الأرض والسماء * يحسبه عالم حجابا * لم يعرفوا لذة العطاء لولا الذي في النفوس منه * لم يجب الله في دعاء * لا تحسب المال ما تراه * من عسجد مشرق الراء بل هو ما كنت يا بنيي * به غنيا عن السواء * فكن برب العلا غنيا * وعامل الحق بالوفاء ولنا فيه أيضا من قصيدة المال يصلح كل شئ فاسد * وبه يزول عن الجواد عثارة وهذه طريقة أغفلها أهل طريقنا ورأوا أن الغني بالله تعالى من أعظم المراتب وحجبهم ذلك عن التحقيق بالتنبيه على الفقر إلى الله الذي هو صفتهم الحقيقية فجعلوها في الغني بالله بحكم التضمين لمحبتهم في الغني الذي هو خروج عن صفتهم والرجل إنما هو من عرف قدره وتحقق بصفته ولم يخرج عن موطنه وأبقى على نفسه خلعة ربه ولقبه واسمه الذي لقبه به وسماه فقال أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد فلرعونة النفس وجهالتها أرادت أن تشارك ربها في اسم الغني فرأت إن تتسمى بالغنى بالله وتتصف به حتى ينطلق عليها اسم الغني وتخرج عن اسم الفقير فانظر ما بين الرجلين وما رأيت أحدا من أهل طريقنا أشار إلى ما ذكرناه أصلا من غوائل النفوس المبطونة فيها إلا الله تعالى فهو الذي نبه عباده عليها وبعد هذا فما سمعوا وتعاموا وكم جهدت أن أرى لأحد في ذلك تنبيها عليه فما وجدت وأسأل من الله تعالى أن لا يجعلنا ممن انفرد بها وأن يشاركنا فيها إخواننا من العارفين وأما أصحابنا فإنهم أخذوها عنا وتحققوا بها في نفوسهم وما بقي عليهم فيها إلا التخلق بها وأن تكون صفتهم دائما ولكن بعد أن عرفنا أولادنا فعرفوا هذه المرتبة وتنبهوا إلى ما جهل الناس من العارفين من ذلك فقد حصل لهم خير كثير منعهم هذا القدر إن يسيئوا الأدب مع الله تعالى ومن إساءة الأدب في طريق الله تعالى وهو مما يستدرج الله به العارفين عزة الشيوخ على أتباعهم من المريدين بما افتقروا إليهم فيه من التربية وامتيازهم عنهم فإن الشيخ إذا لم يوف هذا المقام حقه يحجبه فقر المريد إليه عن فقره إلى ربه حالا ويكون مشهده عند ذلك غناه بالله والغني بالله يطلب العزة وحال المحقق صاحب هذا المقام إذا رأى المريدين يفتقرون إليه فيما عنده من الله شكر الله على ذلك حيث ألزم الله به فقراء إليه يثبتونه بصفة فقرهم إليه على فقره إلى الله تعالى فإنه ربما لو لم يظهر صفة فقرهم إليه نسي فقره إلى الله تعالى فهكذا هو حال الشيخ المحقق فينظر هذا الشيخ المريدين المفتقرين إليه بعين من يثبته على طريقه لئلا تزل به القدم فيه فهو كغريق وجد من يأخذ بيده كيف يكون حب ذلك الغريق فيه حيث أمسك عليه حياته فيرى هذا الشيخ حق المريد عليه أعظم من حقه على المريد فالمريد هو شيخ الشيخ بالحال والشيخ هو شيخ المريد بالقول والتربية وإن كنت عاقلا فقد نهيتك على الطريق الأنفس فاعمل عليه فما أبقيت لك في النصيحة ولنا أنا عبد والذل بالعبد أولى * لا أراني للعز بالحق أهلا فانظروني فكلما قلت قولا * كان قولي حالا وعقدا وفعلا
(١٩)