ما كان التكوين واقعا لأن حكمها الاعتدال والاعتدال يقابل الميل ولا يكون التكوين إلا بالميل ولما علم النبي ص من الله أنه ما أوجد العالم إلا بترجيح أحد الإمكانين قال رسول الله ص لقاضي الدين إذا وزنت فارجح فإن الممكن الوجهان فيه على السواء فما أوجده الله إلا بالترجيح ثم إن الله ذكر عن نفسه ما كان عليه ولا عالم فذكر عن نفسه أنه أحب أن يعرف فرجح جانب المعرفة به على مقابله فخلق العالم بالترجيح لجانب العلم على مقابله فلما وازن الله بين الرحمة والغضب رجحت الرحمة وثقلت وارتفع الغضب الإلهي ولا معنى لارتفاع الشئ إلا زوال حكمه فلم يبق للغضب الإلهي حكم في المال فإنه في المال وقع ترجيح الرحمة وارتفاع الغضب لخفته فما ظهر حكم الغصب إلا في حال وضع الغضب والرحمة في الميزان فحكم كل واحد منهما في العالم إلى أن يظهر الترجيح فيرتفع حكم الغضب وما قلنا هذا إلا ردا لما قاله من يدعي الكشف فقال في الموازنة الإلهية إن الله لا يحكم عدله في فضله ولا فضله في عدله وإن القبضتين على السواء من جميع الوجوه وهذا من أعظم الغلط الذي يطرأ على أهل الكشف لعدم الأستاذ وما يقول هذا إلا من لم يكن بين يدي أستاذ قد رباه أستاذ متشرع عارف بموارد الأحكام الشرعية ومصادرها فإن الله ما نصب طريقا إلى معرفته التي لا يستقل العقل بإدراكها من حيث فكره إلا ما شرعه لعباده على ألسنة رسله وأنبيائه وإنما قلنا هذا لما علمنا إن ثم طريقا آخر يقتضيه الوجود ويحصله بعض النفوس الفاضلة فأردنا إن نرفع الإشكال وذلك أن النفوس تصفو بالرياضة وترك الشهوات الطبيعية والاستغراق في الأمور المحسوسة وتتشوق إلى ما منه جاءت وما أريدت له وإلى أين ما لها وما مرتبتها من العالم وعلمت من ذاتها إن وراء هذا الجسم أمرا آخر هو المحرك له والمدبر لما عاينت من الموت النازل به فتنظر إلى آلاته على كمالها ولا ترى له تلك الإدراكات التي كانت له في زمان وصفه بالحياة فعلمت أنه لا بد من أمر آخر هناك لا تعرف ما نسبته إلى هذا الجسم هل نسبة العرض إلى محله أو المتمكن إلى مكانه أو الملك إلى ملكه ثم علمت إن بين الموت والنوم فرقانا بما تراه في النوم من الصور وما تستفيده من الأحوال الملذة والمؤلمة وسرعة التغير في صورة النائم من حال إلى حال ولم تر ذلك في صورة الجسم ثم تستيقظ فترى الجسم على حاله في صورته ما تغير وترى انفعال الجسم في بعض الأوقات لما يطرأ للنائم في حال نومه مثل دفق الماء في الاحتلام عند رؤية الجماع في النوم فعلمت بهذا كله إن وراء هذا الجسم أمرا آخر بينه وبين هذه الصورة علاقة ثم إنها رأت تفاوت الأمثال في العلوم والفهم وافتقار بعضها إلى التعليم ونظرت إلى حال من زهد وفكر واتخذ الخلوات ولم يأخذ من لذات المحسوسات إلا ما تمس إليه الحاجات مما به قوام هذا الجسم وإن صاحب هذا الحال يزيد على نفس أخرى بعلوم وفضائل يفتقر إليه فيها وفي العلم بها فنظرت في الطريق الذي أوصل تلك النفوس دون غيرها إلى هذا المقام فلم تر مانعا إلا انكباب بعض النفوس على تناول هذه المشتهيات الظاهرة الطبيعية والتنافس فيها فزهدت في ذلك كله وتحلت بمكارم الأخلاق ولم تترك لأحد عليها مطالبة ولا علاقة ولم تزاحمهم على ما هم عليه وجنحت إلى الخلوات ورفعت الهمة إلى الاستشراف لتعلم ما هو الأمر عليه فلما كانت بهذه المثابة وكل ذلك نظر منها ما هو عن تقليد شرع إلهي وإنما هو عن فكرة صحيحة وإلهام إلهي ناقص غير كامل لأن الإلهام الكامل أن يلهم لاتباع الشرع والنظر في كلامه وفي الكتب التي قيل لنا إنها جاءت من عند الله فمثل هذا هو الإلهام الأكمل فلما صفت هذه النفس وشفت وصارت مثل المرآة وزال عنها صدأ هذه الطبيعية انتقش فيها صور العالم فرأت ما لم تكن رأته فنطقت بالغيوب والتحقت بالملأ الأعلى التحاق غريب ورد على غير موطنه وهو موطنه ولكن ما عرف لغربته لما سافر إلى أرض طبيعته وبدنه فلم يكن له ذلك الإدلال ولا كمال الأنس بذلك العالم ورأى اشتغال ذلك العالم عنه بالتسبيح والتقديس وما سخروا فيه من الأعمال في حق هذه المولدات العنصرية فرأت ما يختص منهم بتحريك الأفلاك وتسيير كواكبها وما يحدث في الأركان منها وعلمت ما لم تكن تعلم وأخذت عن الأرواح الملكية علوما لم تكن عندها وما علمت إن ثم طريقا تصل منه إذا سلكت عليه إلى الأخذ عن الله منشئ الكل وأن بينه وبينها بابا خاصا يخصها فقالت هذا هو الغاية وما ثم إلا هؤلاء ونظرت إلى تفوقها بذلك على غيرها من أمثالها فقنعت فكل ما يأتي به من هذا نعته وحاله ليس له ذوق إلهي
(١٧٦)