بعضهم على بعض ويظهر فيه التفاوت فاعلم إن النفس الناطقة من الإنسان إذا أراد الله بها خيرا كشف لها عن نطق جميع أجزاء بدنها كلها بالتسبيح والثناء على الله بحمده لا بحمد من عندها ولا ترى فيهم فتورا ولا غفلة ولا اشتغالا ورأت ذاتها غافلة عما يجب لله تعالى عليها من الذكر مفرطة مشتغلة عن الله بأغراضها متوجهة نحو الأمور التي تحجبها عن الله والوقوف عند حدوده فيعظم العالم عندها وتعلم أنه شعائر الله التي يجب عليها تعظيمها وحرمات الله وتصغر عندها نفسها وتعلم أن لو تميزت عن جسمها ولم يكن جسمها من المتمات لها في نشأتها لعلمت أن الجسم ذلك المدبر لها أشرف منها فلما علمت إن ذلك الجسم أشرف منها علمت إن شرفه بما هو عليه من هذه الصفات هو عين شرفها وإنها ما أمرت بتدبيره واستخدمت في حقه وصيرت كالخديم له وتوجهت عليها حقوق له من عينه وسمعه وغير ذلك إلا لشغله بالله وتسبيح خالقه فعلمت نفسها أنها مسخرة له فلو كانت هي من الاشتغال بالله في مثل هذا الاشتغال كان لها حكم جسمها ولو وكل الجسم لتدبير ذاته اشتغل عن التسبيح كما اشتغلت النفس الإنسانية وإذا علمت أنها مسخرة في حق جسمها عرفت قدرها وأنها في معرض المطالبة والمؤاخذة والسؤال والحساب فتعين عليها في دار التكليف أداء الحقوق الواجبة عليها لله وللعالم الخارج عنها ولنفسها بما يطلبه منها جسمها ولم تتفرع مع هذا الاشتغال إلى رؤية الأفضلية ولا تشوفت لمعرفة المراتب وهذه المرتبة أعني مرتبة أداء الحقوق أشرف المراتب في حق الإنسان والخاسر من اشتغل عنها كما إن الرابح من اشتغل بها واعلم أن الله تعالى إذا ذكر لك شيئا بضمير الغائب فما هو غائب عنه وإنما راعى المخاطب وهو أنت والمذكور غائب عنك فإذا ذكره بضمير الحضور من إشارة إليه وغيرها فإنما راعاك ومراعاة شهوده لا بد منها في كل حال ولكن يفرق بين ما يحكيه الله من أقوال القائلين وبين الكلام الذي يقوله من عند نفسه فإذا كان الحق سمع العبد وبصره زالت الغيبة في حق العبد فما هو عند ذلك مخاطب بما فيه ضمير غائب وقد وجد الخطاب لمن هذه صفته بضمير الغائب فكيف الأمر قلنا لما كان العبد المنزل عليه القرآن مأمورا بتبليغه إلى المكلفين وتبيينه للناس ما نزل إليهم ومن الأشياء ما هي مشهودة لهم وغائبة عنهم ولم يؤمر أن يحرف الكلم عن مواضعه بل يحكي عن الله كما حكى الله له قول القائلين وقولهم يتضمن الغيبة والحضور فما زاد على ما قالوه في حكايته عنهم وقيل له بلغ ما أنزل إليك فلم يعدل عن صورة ما أنزل إليه فقال ما قيل له فإنه ما نزلت المعاني على قلبه من غير تركيب هذه الحروف وترتيب هذه الكلمات ونظم هذه الآيات وإنشاء هذه السور المسمى هذا كله قرآنا فلما أقام الله نشأة القرآن صورة في نفسها أظهرها كما شاهدها فأبصرتها الأبصار في المصاحف وسمعتها الآذان من التالين وليس غير كلام الله هذا المسموع والمبصر وألحق الذم بمن حرفه بعد ما عقله وهو يعلم أنه كلام الله فأبقى صورته كما أنزلت عليه فلو بدل من ذلك شيئا وغير النشأة لبلغ إلينا صورة فهمه لا صورة ما أنزل عليه فإنه لكل عين من الناس المنزل إليهم هذا القرآن نظر فيه فلو نقله إلينا على معنى ما فهم لما كان قرآنا أعني القرآن الذي أنزل عليه فإن فرضنا أنه قد علم جميع معانيه بحيث إنه لم يشذ عنه شئ من معانيه قلنا فإن علم ذلك وهذه الكلمات التي تدل على جميع تلك المعاني فلأي شئ يعدل وإن عدل إلى كلمات تساويها في جميع تلك المعاني فلا بد لتلك الكلمات التي يعدل إليها من حيث ما هي أعيان وجودية أعيان غير هذه الأعيان التي عدل عنها التي أنزلت عليه فلا بد أن تخالفها بما تعطيه من الزيادة من حيث أعيانها على ما جمعته من المعاني التي جمعتها الكلمات المنزلة فيزيد للناظر في القرآن معاني أعيان تلك الكلمات المعدول إليها وما أنزلها الله فيكون النبي قد بلغ للناس ما نزل إليهم وما لم ينزل إليهم فيزيدون في الحكم شرعا لم يأذن به الله كما أيضا ينقص مما أنزل الله أعيان تلك الكلمات التي عدل عنها فكان الرسول قد نقص من تبليغ ما أنزل إليه أعيان تلك الكلمات وحاشاه من ذلك فلم يكن ينبغي له إلا أن يبلغ إلى الناس ما نزل إليهم صورة مكملة من حيث الظاهر حروفها اللفظية والرقمية ومن حيث الباطن معانيها ولذلك كان جبريل في كل رمضان ينزل على محمد ص يدارسه القرآن مرة واحدة فكانت له مع جبريل ع في كل رمضان ختمة إلى أن جاء آخر رمضان شهده رسول الله ص فدارسه جبريل مرتين في ذلك الرمضان فختم ختمتين فعلم أنه يموت في السنة الداخلة لا في سنة ذلك الرمضان فكانت الختمة الثانية لرمضان السنة التي مات فيها حتى تكون
(١٥٨)