ولا يلزم منه التصرف في دليله، إذ مفاد الأدلة الشرعية مفاد القضايا الحقيقة الدالة على ثبوت الحكم عند تحقق الموضوع. والدليل الدال على حكم لا يكون متكفلا لبيان موضوعه من حيث التحقق والعدم، فكون المكلف قادرا أو غير قادر خارج عن مفاد الدليل، بل مفاده ثبوت التكليف عند تحقق القدرة، فنفي الحكم بانتفاء موضوعه لا يكون رفع اليد عن الدليل الدال عليه. وهذا بخلاف باب التعارض، إذ التنافي بين الدليلين من حيث المدلول ثابت فيه، سواء كان التنافي بينهما في تمام المدلول - كما في المتباينين - أو في بعض المدلول - كالعامين من وجه - فان التنافي بينهما في مادة الاجتماع فقط، فالأخذ بأحدهما - للترجيح أو التخيير - موجب لرفع اليد عن الاخر والحكم بعدم ثبوت مدلوله، فيكون الحكم الاخر منتفيا مع بقاء موضوعه لا بانتفائه، فان الاخذ - بالدليل الدال على طهارة شئ - موجب لرفع اليد عن الدليل الدال على نجاسته، فيكون الحكم بالنجاسة منفيا عن موضوعه لا منتفيا بانتفاء موضوعه، لبقاء الموضوع بحاله. وبعبارة أخرى ثبوت مدلول أحد الدليلين في باب التعارض يوجب انتفاء مدلول الاخر في مقام الجعل، بخلاف باب التزاحم، فان ثبوت أحدهما يوجب انتفاء موضوع الاخر، فيوجب انتفاءه في مرتبة الفعلية لانتفاء موضوعه، لا انتفاءه في مقام الجعل. ولذا يمكن التفكيك باعتبار الأشخاص في باب التزاحم، كما إذا كان أحد قادرا على إنقاذ كلا الغريقين، والاخر قادرا على إنقاذ أحدهما فقط فيتحقق التزاحم بالنسبة إلى الثاني دون الأول، بخلاف باب التعارض، إذ لا يمكن الحكم بالنجاسة في المثال الذي ذكرناه بالنسبة إلى شخص، وبالطهارة بالنسبة إلى آخر.
بل تقديم أحد الدليلين - على الاخر للترجيح أو التخيير - يوجب الحكم بمدلوله من الطهارة أو النجاسة للجميع. وظهر بما ذكرناه - من أن التنافي بين الدليلين من حيث المدلول مأخوذ في التعارض، وأنه لا تنافي بينهما في التزاحم أصلا - كمال الفرق