أداء الفريضة، وهذه الفضيلة المذكورة ههنا هي ما خص كل واحد منهم من المنازل الجليلة، نحو كلامه لموسى بلا سفير، وكإرساله محمدا إلى الكافة من الجن والإنس. وقيل: أراد التفضيل في الآخرة، لتفاضلهم في الأعمال، وتحمل الأثقال. وقيل: بالشرائع فمنهم من شرع، ومنهم من لم يشرع. والفرق بين الابتداء بالفضيلة، وبين المحاباة أن المحاباة اختصاص البعض بالنفع على ما يوجبه الشهوة دون الحكمة، وليس كذلك الابتداء بالفضيلة، لأنه قد يكون للمصلحة التي لولاها لفسد التدبير، وأدى إلى حرمان الثواب للجميع. فمن حسن النظر لهذا الانسان تفضيل غيره عليه، إذا كان في ذلك مصلحة له، فهذا وجه تدعو إليه الحكمة، وليس كالوجه الأول الذي إنما تدعو إليه الشهوة.
(منهم من كلم الله) أي: كلمه الله، وهو موسى (ورفع بعضهم درجات) قال مجاهد: أراد به محمدا " صلى الله عليه وآله وسلم "، فإنه تعالى فضله على جميع أنبيائه، بأن بعثه إلى جميع المكلفين من الجن والإنس، وبأن أعطاه جميع الآيات التي أعطاها من قبله من الأنبياء، وبأن خصه بالقرآن الذي لم يعطه غيره، وهو المعجزة القائمة إلى يوم القيامة بخلاف سائر المعجزات، فإنها قد مضت وانقضت، وبأن جعله خاتم النبيين، والحكمة تقتضي تأخير أشراف الرسل لأعظم الأمور.
(وآتينا عيسى بن مريم البينات) أي: الدلالات كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإخبار عما كانوا يأكلونه ويدخرونه في بيوتهم (وأيدناه بروح القدس) قد مر تفسيره في الآية الخامسة والثمانين من هذه السورة (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم) أي: من بعد الرسل. وقال قتادة والربيع: من بعد موسى وعيسى، وأتى بلفظ الجمع، لأن ذكرهما يغني عن ذكر المتبعين لهما، كما يقال:
خرج الأمير فنكوا في العدو نكاية عظيمة، معناه: ولو شاء الله لم يقتتل الذين من بعد الأنبياء، بأن يلجئهم إلى الإيمان، ويمنعهم عن الكفر، إلا أنه لم يلجئهم إلى ذلك، لأن التكليف لا يحسن مع الضرورة والإلجاء، والجزاء لا يحسن إلا مع التخلية والاختيار، عن الحسن. وقيل: معناه لو شاء الله ما أمرهم بالقتال (من بعد ما جاءتهم البينات) من بعد وضوح الحجة، فإن المقصد من بعثه الرسل قد حصل بايمان من آمن قبل القتال (ولكن اختلفوا فمنهم من آمن) بتوفيق الله ولطفه، وحسن اختياره. (ومنهم من كفر) بسوء اختياره (ولو شاء الله ما اقتتلوا) كرر ذلك تأكيدا وتنبيها. وقيل: الأول مشيئة الإكراه أي: لو شاء الله اضطرهم إلى حال يرتفع معها