في هذا الباب فاعلم إن هذا المنزل هو منزل البرزخ الحقيقي فإن البرزخ يتوسع فيه الناس وما هو كما يظنون بما هو كما عرفنا الله به في كتابه في قوله في البحرين بينهما برزخ لا يبغيان فحقيقة البرزخ أن لا يكون فيه برزخ وهو الذي يلتقي ما بينهما بذاته فإن التقى الواحد منهما بوجه غير الوجه الذي يلقى به الآخر فلا بد أن يكون بين الوجهين في نفسه برزخ يفرق بين الوجهين حتى لا يلتقيان فإذا ليس ببرزخ فإذا كان عين الوجه الذي يلتقي به أحد الأمرين الذي هو بينهما عين الوجه الذي يلتقي به الآخر فذلك هو البرزخ الحقيقي فيكون بذاته عن كل ما يلتقي به فيظهر الفصل بين الأشياء والفاصل واحد العين وإذا علمت هذا علمت البرزخ ما هو ومثاله بياض كل أبيض هو في كل أبيض بذاته ما هو في أبيض ما بوجه منه ولا في أبيض آخر بوجه آخر بل هو بعينه في كل أبيض وقد تميز الأبيضان أحد هما عن الآخر وما قابلهما البياض إلا بذاته فعين البياض واحد في الأمرين والأمران ما هو كل واحد عين الآخر فهذا مثال البرزخ الحقيقي وكذلك الإنسانية في كل إنسان بذاتها الواحد هو البرزخ الحقيقي وما ينقسم لا يكون واحدا والواحد يقسم ولا يقسم أي ولا ينقسم في نفسه فإنه إن قبل القسمة في عينه فليس بواحد وإذا لم يكن واحدا لم يقابل كل شئ من الأمرين الذي يكون بينهما بذاته والواحد معلوم أنه ثم واحد بلا شك والبرزخ يعلم ولا يدرك ويعقل ولا يشهد ثم إن الناس جعلوا كل شئ بين شيئين برزخا توسعا وإن كان ذلك الشئ المسمى عندهم برزخا جسما كبيرا أو صغيرا لكنه لما منع أن يلتقي الأمران اللذان هو بينهما سموه برزخا فالجوهران اللذان يتجاوران ولا ينقسم كل واحد منهما عقلا ولا حسا لا بد من برزخ يكون بينهما وتجاور الجوهرين تجاور أحيازهما وليس بين أحيازهما حيز ثالث ليس فيه جوهر وبين الحيزين والجوهرين برزخ معقول بلا شك هو المانع أن يكون عين كل جوهر عين الآخر وعين كل حيز عين الآخر فهو قد قابل كل جوهر وكل حيز بذاته من عرف هذا عرف حكم الشارع إذ قال إن الله خلق الماء طهورا لا ينجسه شئ مع حصول النجاسة فيه بلا شك ولكن لما كانت النجاسة متميزة عن الماء بقي الماء طاهرا على أصله إلا أنه يعسر إزالة النجاسة منه فما أباح الشارع من استعمال الماء الذي فيه النجاسة استعملناه وما منع من ذلك امتنعنا منه لأمر الشرع مع عقلنا أن النجاسة في الماء وعقلنا أن الماء طهور في ذاته لا ينجسه شئ فما منعنا الشارع من استعمال الماء الذي فيه النجاسة لكونه نجسا أو تنجس وإنما منعنا من استعمال الشئ النجس لكوننا لا نقدر على فصل أجزائه من أجزاء الماء الطاهر فبين النجاسة والماء برزخ مانع لا يلتقيان لأجله ولو التقيا لتنجس الماء فاعلم ذلك ألا ترى الصور التي في سوق الجنة كلها برازخ تأتي أهل الجنة إلى هذا السوق من أجل هذه الصور وهي التي تتقلب فيها أعيان أهل الجنة فإذا دخلوا هذا السوق فمن اشتهى صورة دخل فيها وانصرف بها إلى أهله كما ينصرف بالحاجة يشتريها من السوق فقد يرى جماعة صورة واحدة من صور ذلك السوق فيشتهيها كل واحد من تلك الجماعة فعين شهوته فيها التبس بها ودخل فيها وحازها فيحوزها كل واحد من تلك الجماعة ومن لا يشتهيها بعينه واقف ينظر إلى كل واحد من تلك الجماعة قد دخل في تلك الصورة وانصرف بها إلى أهله والصورة كما هي في السوق ما خرجت منه فلا يعلم حقيقة هذا الأمر الذي نص عليه الشرع ووجب به الايمان إلا من علم نشأة الآخرة وحقيقة البرزخ وتجلى الحق في صور متعددة يتحول فيهن من صورة إلى صورة والعين واحدة فيشهد بصرا تحوله في صور ويعلم عقلا أنها ما تحولت قط فكل قوة أدركت بحسب ما أعطتها ذاتها والحق في نفسه صدق العقل في حكمه وصدق البصر في حكمه ثم له علم بنفسه ما هو عين ما حكم به العقل عليه ولا هو عين ما حكم به شهود البصر عليه ولا هو غير هذين بل هو عين ما حكما به وهو ما علمه الحق من نفسه مما لم يعلمه هذان الحاكمان فسبحان العليم القدير قدر وقضى وحكم وأمضى وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه في كل معبود وأين أبين من تحوله في صور المعبودات ولكن أكثر الناس لا يعلمون ثم شرع لنا أن لا نعبده في شئ منها وإن علمنا أنه عينها وعصى من عبده في تلك الصور وجعله مشركا وحرم على نفسه المغفرة فوجبت المؤاخذة في المشرك ولا بد ثم بعد ذلك ترتفع المؤاخذة وما ارتفعت إلا لجهله بصورة ما عنده في الشريك بنفي تلك الصفة في الآخرة عن الشريك فلذلك عوقب ولذلك شملته الرحمة بعد العقوبة وإن
(٥١٨)