لتعريس هذه المعاني التي يسفرها الحق لقلوب عباده فتعرس فيها ليطلعه الله على ما أراد أن يعلمه ذلك القلب فما من نفس إلا وللقلب خاطر إلهي قد نزل به على أي طريق سلك لكن بعض القلوب تعرف من عرس بها من الخواطر وقد لا تعرف من أي طريق جاء لأنها ما شعرت به حتى نزل ذلك الخاطر بالقلب وبعض الناس لهم استشراف على أفواه السكك التي تأتي عليها هذه الخواطر التي تنزل بهذا القلب وتعرف كل طريق وتميزه عن صاحبه فإذا أقبل الخاطر عرف من أي طريق أقبل فإذا نزل به يقابله من الكرامة به على قدر ما يعرفه فإنه لكل طريق حكم ليس للطريق الآخر وهذا كله أعني الذي ذكرناه من المراعاة إنما ذلك في زمان التكليف فإنه الذي وضع الطريق وأوجب الأحكام فإذا ارتفع التكليف في النشأة الآخرة توحدت الطريق فلم يكون غير طريق واحدة فلا يحتاج في النازل عليه من الله المعرس بقلبه إلى تمييز أصلا فإنه ثم عمن يتميز لأحدية الطريق فلا يكون العرس بالعقد وبما فصلناه في ذلك في أول الباب إلا في زمان التكليف وهو زمان الحياة الدنيا في أول وجوب التكليف فاعلم ذلك فإذا كان الحق منزل تعريسنا وهو ما ذكر عن نفسه إن العبد يتحرك بحركة يضحك بها ربه ويتعجب منها ربه ويتبشبش له من أجلها ربه ويفرح بها ربه ويرضي بها ربه ويسخط بها ربه ويغضب بها ربه فلما قال هذا عن نفسه وعين هذه الحركات وأمثالها حتى عرفناها من كتابه على لسان رسوله ص وعرفنا إن العبد عنده بحسب ما أنزل به من هذه الحركات الموجبة لهذه الأحكام التي وصف الحق بها نفسه أنه يظهر بها إذا أتى بها العبد وهذا حكم أثبته الحق ونفاه دليل العقل فعرفنا إن العقل قاصر عما ينبغي لله عز وجل وأنه لو ألزم نفسه الإنصاف للزم حكم الايمان والتلقي وجعل النظر والاستدلال في الموضع الذي جعله الله ولا يعدل به عن طريقه الذي جعله الله له وهو الطريق الموصل إلى كونه إلها واحدا لا شريك له في ألوهيته ولا يتعرض لها لما هو عليه في نفسه وأما استدلاله القاصر الذي يريد أن يحكم به على ربه بقوله إنه ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث بتقسيمه في ذلك فإذا سلمناه لم يقدح فيما نريده فإنا نقول له من قال لك إن الحق بهذه المثابة وهو قولك كل ما لا يخلو عن الحوادث في نفسه فمن قال لك إن هذه في الموجودات منحصرة إنما ذلك حكم فيما لا يخلو عن الحوادث لا فيمن يخلو عن الحوادث وأما تقسيمك الآخر على هذا الجواب وهو قولك إنه إذا خلا عنها ثم قبلها فلا يخلو إما أن يقبلها لنفسه أو لأمر آخر ما هو نفسه فإن قبلها لنفسه فلا يخلو عنها وإذا لم يخل عنها فهو حادث مثلها ونقول له أما الحوادث كلها فيستحيل دخولها في الوجود لأنها لا تتناهى وأنت تعلم أن الذي يقبل الحوادث قد كان خليا عنها أي عن حادث معين مع وجود نفسه ثم قبل ذلك الحادث لنفسه لأنه لولا ما هو على صفة يقبله ما قبله فقد عرا وخلا عن ذلك الحادث بعينه مع وجود نفسه فما من حادث تفرضه إلا ويعقل وجود نفس القابل له وذلك الحادث غير موجود وإن لم يخل عن الحوادث فلا يلزم أن يكون حادثا مثلها مع قبوله لها لنفسه فالحق قد أخبر عن نفسه أنه يجيب عبده إذا سأله ويرضى عنه إذا أرضاه ويفرح بتوبة عبده إذا تاب فانظر يا عقل لمن تنازع ومن المحال أن نصدقك ونكذب ربك ونأخذ عنك الحكم عليه وأنت عبد مثلي ونترك الأخذ عن الله وهو أعلم بنفسه فهو الذي نعت نفسه بهذا كله ونعلم حقيقة هذا كله بحده وماهيته ولكن نجهل النسبة إلى الله في ذلك لجهلنا بذاته وقد منعنا وحذرنا وحجر علينا التفكر في ذاته وأنت يا عقل بنظرك تريد أن تعلم حقيقة ذات خالقك لا تسبح في غير ميدانك ولا تتعد في نظرك معرفة المرتبة لا تتعرض للذات جملة واحدة فإن الله قد أبان لنا أنه محل أو منزل لتعريس حركات عباده في أسفارهم بأحوالهم فتفطن إن كنت ذا عقل سليم ثم إنه ما يلزم إذا كان الأمر عندك قد حدث أن يكون ذلك الأمر حادثا في نفسه لا عقلا ولا عرفا ولا شرعا فإنك تقول قد حدث عندنا اليوم ضعيف وهو صحيح حدوثه عندكم لا حدوثه في نفسه في ذلك الوقت بل قد كانت عينه موجودة منذ خمسين سنة ومع هذا فلا يحتاج إليه لبيانه وظهوره فمن أراد الدخول على الله فليترك عقله ويقدم بين يديه شرعه فإن الله لا يقبل التقييد والعقل تقييد بل له التجلي في كل صورة كما له أن يركبك في أي صورة شاء فالحمد لله الذي ركبنا في الصورة التي لم تقيده سبحانه بصورة معينة ولا حصرته فيها بل جعلت له ما هو له بتعريفه أنه له وهو تحوله في الصور فما قدر الله حق قدره إلا الله ومن وقف مع الله
(٥١٥)