ورأيت فيه علم خزائن مزيد العلوم وتنزلها على قلوب العارفين وبمن تحق ومن يقسمها على القلوب وما ينزل منها عن سؤال وعن غير سؤال فإذا سأل الإنسان مزيد العلم فليسأل كما أمر الله تعالى نبيه أن يسأل إذ قال له وقل رب زدني علما فنكر ولم يعين فعم فأي علم نزل عليه دخل تحت هذا السؤال فإن النزول عن سؤال أعظم لذة من النزول عن غير سؤال فإن في ذلك إدراك البغية وذلة الافتقار وإعطاء الربوبية حقها والعبودة حقها فإن العبد مأموران يعطي كل شئ حقه كما أعطى الله كل شئ خلقه وفي العلم المنزل عن السؤال من علو المنزلة ما لا يقدر قدر ذلك إلا الله ورأيت علم حصر الآيات في السمع والبصر فأما شهود وإما خبر ورأيت التوراة وعلم اختصاصها بما كتبها الله بيده وتعجبت من ذلك كيف كتبها بيده ولم يحفظها من التبديل والتحريف الذي حرفه اليهود أصحاب موسى فلما تعجبت من ذلك قيل لي في سرى اسمع الخطاب بل أرى المتكلم وأشهده في اتساع رحمة أنا فيها واقف وقد أحاطت بي فقال لي أعجب من ذلك إن خلق آدم بيديه وما حفظه من المعصية ولا من النسيان وأين رتبة اليد من اليدين فمن هذا فأعجب وما توجهت اليدان إلا على طينته وطبيعته وما جاءته الوسوسة إلا من جهة طبيعته لأن الشيطان وسوس إليه وهو مخلوق من جزء ما خلق منه آدم فما نسي ولا قبل الوسوسة إلا من طبيعته وعلى طبيعته توجهت اليدان ثم مع هذا فما حفظه مما حمله في طينته من عصاة بنيه فلا تعجب لتغيير اليهود التوراة فإن التوراة ما تغيرت في نفسها وإنما كتابتهم إياها وتلفظهم بها لحقه التغيير فنسب مثل ذلك إلى كلام الله فقال يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون أن كلام الله معقول عندهم وأبدوا في الترجمة عنه خلاف ما هو في صدورهم عندهم وفي مصحفهم المنزل عليهم فإنهم ما حرفوا إلا عند نسخهم من الأصل وأبقوا الأصل على ما هو عليه ليبقى لهم العلم ولعلمائهم وآدم مع اليدين عصى بنفسه ولم يحفظ حفظ كلام الله فهذا أعجب وإنما عصم كلام الله لأنه حكم والحكم معصوم ومحله العلماء به فما هو عند العلماء محرف وهم يحرفونه لأتباعهم وآدم ما هو حكم الله فلا يلزمه العصمة في نفسه وتلزمه العصمة فيما ينقله عن ربه من الحكم إذا كان رسولا هو وجميع الرسل وهذا علم شريف فإن الله ما جعل في العالم هدى لا يصح أن يعود عمى فإنه أبان لمن أوصله إليه فما اتصف بالعمى إلا من لم يصل إليه الهدى من ربه ومن قيل له هذا هدى لا يقال إنه وصل إليه حتى يكون هو الذي أنزل عليه الهدى وحصل له العلم بذلك فإن هذا لا يكون عنده عمى أبدا فما استحب العمي على الهدى إلا من هو مقلد في الأمرين لأبناء جنسه فالعمي يوافق طبعه والهدى يخالف طبعه فلذلك يؤثره عليه فرأيت فيها علم من اتأد وعلى الله اعتمد وهذا هو التوكل الخامس وهو قوله تعالى في سورة المزمل فاتخذه وكيلا ورأيت فيها علم ما ينال بالورث وعلم ما ينال بالكسب ورأيت فيها علم الفرق بين شكر المكلف وشكر العبد ورأيت فيها علم تنوع الأحكام لتنوع الأزمان فإنه من المحال أن يقع شئ في العالم إلا بترتيب زماني وتقدم وتأخر ومفاضلة لأن الله أشهدني أسماءه فرأيتها تتفاضل لاشتراكها في أمور وتميزها في أمور مع الاشتراك وكل اسم لا يقع فيه اشتراك مع اسم لا مفاضلة بين ذاتك الإسمين فاعلم ذلك فإنه علم عزيز ورأيت فيها علم تسليط العالم بعضه على بعض وما سببه فرأيته من حكم الأسماء الإلهية في طلبها ظهورها وولايتها وما هي عليها من الغيرة ورأيتها تستعين بالمشارك لها من الأسماء فهي المعانة المعينة ولذلك خرج الخلق على صورتها فمنها المعان والمعين ولما وقع الأمر هكذا خاطبهم بحكم التعاون فقال وتعاونوا على البر والتقوى فيكون ما فطروا عليه عباده فإنهم قد يتعاونون بتلك الحقيقة على الإثم والعدوان ورأيت علم الجبر فرأيته آخر ما تنتهي إليه المعاذر وهو سبب مال الخلق إلى الرحمة فإن الله يعذر خلقه بذلك فيما كان منهم فإنهم لا يبقى منهم إلا التضرع الطبيعي ولولا إن نش ء الآخرة مثل نش ء الدنيا ذو جسم طبيعي وروح ما صح من الشقي طلب ولا تضرع إذ لو لم يكن هناك أمر طبيعي لم يكن للنفس إذا جهلت من ينبهها على جهلها لعدم إحساسها إذ لا حس لها إلا بالجزء الطبيعي الذي هو الجسد المركب وبالجهل شقاؤها فكانت النفس بعد المفارقة إذا فارقت وهي على جهالة كان شقاؤها جهلها ولا تزال فيه أبدا فمن رحمة الله بها إن جعل لها هذا المركب الطبيعي في الدنيا والآخرة وما كل أحد يعلم حكمة هذا المركب الذي لا يخلو حيوان عنه ورأيت علم الرجعة وهو علم البعث وحشر الأجساد في الآخرة وأن الإنسان إذا انتقل عن الدنيا لن يرجع إليها أبدا لكنها تنتقل معه
(٣٥١)