وربما قام إليه وعانقه وآنسه وقال له أحمد الله الذي طهرك وأظهر له السرور والبشاشة به وربما أحسن إليه بعد ذلك هذا ميزانه ويرجع لذلك المحدود رحمة كله وقد رأيت ذلك لبعض القضاة ببلاد المغرب قاضي مدينة سبتة يقال له أبو إبراهيم بن يغمور وكان يسمع معنا الحديث على شيخنا أبي الحسين بن الصائغ من ذرية أبي أيوب الأنصاري وعلى أبي الصبر أيوب الفهري وعلى أبي محمد بن عبد الله الحجري بسبتة في زمان قضائه بها وما كان يأتي إلى السماع راكبا قط بل يمشي بين الناس فإذا لقيه رجلان قد تخاصما وتداعيا إليه وقف إليهما وأصلح بينهما غزير الدمعة طويل الفكرة كثير الذكر يصلح بين القبيلتين بنفسه فيصطلحان ببركته والقاضي إن بقي معه الغضب على المحدود بعد أخذ حق الله منه فهو غضب نفس وطبع أو لأمر في نفسه لذلك المحدود ما هو غصب لله فلذلك لا يأجره الله فإنه ما قام في ذلك مراعاة لحق الله وهذا من قوله تعالى ونبلو أخباركم فابتلاهم أولا بما كلفهم فإذا عملوا ابتلى أعمالهم هل عملوها لخطاب الحق أو عملوها لغير ذلك وهو قوله عز وجل أيضا يوم تبلي السرائر وهذا ميزانه عند أهل الكشف فلا يغفل الحاكم عند إقامة الحدود عن النظر في نفسه وليحذر من التشفي الذي يكون للنفوس ولهذا نهي عن الحكم في حال غضبه ولو لم يكن حاكما في حق من ابتلي بإقامة حد عليه فإن وجد لذلك تشفيا فيعلم أنه ما قام في ذلك لله وما عنده فيه خير من الله وإذا فرح بإقامة الحد على المحدود إن لم يكن فرحه له لما سقط عنه ذلك الحد في الآخرة من المطالبة وإلا فهو معلول وما عندي في مسائل الأحكام المشروعة بأصعب من الزنا خاصة ولو أقيم عليه الحد فإني أعلم أنه يبقى عليه بعد إقامة الحد مطالبات من مظالم العباد واعلم أن غير الحاكم ما عين الله له إقامة الحد عليه فلا ينبغي أن يقوم به غضب عند تعدى الحدود فليس ذلك إلا للحكام خاصة ولرسول الله ص من حيث ما هو حاكم فلو كان مبلغا لا حاكما لم يقم به غضب على من رد دعوته فإنه ليس له من الأمر شئ وليس عليه هداهم فإن الله يقول في هذا للرسول ص إن عليك إلا البلاغ وقد بلغ فاسمع الله من شاء وأصم من شاء فهم أعقل الناس أعني الأنبياء وإذا كوشف الداعي على من أصمه الله عن الدعوة فما سمعها لم يتغير لذلك فإن الصائح إذا نادى من قام به الصمم وعلم أنه لم يسمع نداءه لم يجد عليه وقام عذره عنده فإن كان الرسول حاكما تعين عليه الحكم بما عين الله له فيه وهذا علم شريف يحتاج إليه كل وال في الأرض على العالم وأما علم ما يحتاج إليه الملك من الأرزاق فهو إن يعلم أصناف العالم وليس إلا اثنان وأعني بالعالم الذي يمشي فيهم حكم هذا الإمام وهم عالم الصور وعالم الأنفس المدبرون لهذه الصور فيما يتصرفون فيه من حركة أو سكون وما عدا هذين الصنفين فما له عليهم حكم إلا من أراد منهم أن يحكمه على نفسه كعالم الجان وأما العالم النوراني فهم خارجون عن إن يكون للعالم البشري عليهم تولية فكل شخص منهم على مقام معلوم عينه له ربه فما يتنزل إلا بأمر ربه فمن أراد تنزيل واحد منهم فيتوجه في ذلك إلى ربه وربه يأمره ويأذن له في ذلك إسعافا لهذا السائل أو ينزله عليه ابتداء وأما السائحون منهم فمقامهم المعلوم كونهم سياحين يطلبون مجالس الذكر فإذا وجدوا أهل الذكر وهم أهل القرآن الذاكرون القرآن فلا يقدمون عليهم أحدا من مجالس الذاكرين بغير القرآن فإذا لم يجدوا ذلك ووجدوا الذاكرين الله لا من كونهم تالين قعدوا إليهم ونادى بعضهم بعضا هلموا إلى بغيتكم فذلك رزقهم الذي يعيشون به وفيه حياتهم فإذا علم الإمام ذلك لم يزل يقيم جماعة يتلون آيات الله آناء الليل والنهار وقد كنا بفاس من بلاد المغرب قد سلكنا هذا المسلك لموافقة أصحاب موفقين كانوا لنا سامعين وطائعين وفقدناهم ففقدنا لفقدهم هذا العمل الخالص وهو أشرف الأرزاق وأعلاها فأخذنا لما فقدنا مثل هؤلاء في بث العلم من أجل الأرواح الذين غذاؤهم العلم ورأينا أن لا نورد شيئا منه إلا من أصل هو مطلوب لهذا الصنف الروحاني وهو القرآن فجميع ما نتكلم فيه في مجالسي وتصانيفي إنما هو من حضرة القرآن وخزائنه أعطيت مفتاح الفهم فيه والإمداد منه وهذا كله حتى لا نخرج عنه فإنه أرفع ما يمنح ولا يعرف قدره إلا من ذاقه وشهد منزلته حالا من نفسه وكلمه به الحق في سره فإن الحق إذا كان هو المكلم عبده في سره بارتفاع الوسائط فإن الفهم يستصحب كلامه منك فيكون عين الكلام منه عين الفهم منك لا يتأخر عنه فإن تأخر عنه فليس هو كلام الله ومن لم يجد هذا فليس
(٣٣٤)