كل واحدة منهما يظهر سلطانها في المزاج الإنساني الحيواني فلو جعل الحرارة الدموية تليها فلا بد إن كان يليها من الصفراء إما الحرارة أو اليبوسة فإن وليتها اليبوسة وهي المنفعلة عن الحرارة فكان اليبس يتقوى سلطانه في الجسم فيؤدي إلى دخول المرض عليه فيحول المرض بينه وبين ما كلفه رب الجسم أن يشتغل به من العلوم واقتنائها والأعمال الموصلة إلى السعادة وكذلك لو جاورتها حرارة الصفراء لزادت في كمية الصفراء فيعتل فلهذا كانت الرطوبة مما يلي الصفراء ثم إنه تعالى زوج بين البرودة والرطوبة فكان من هذا الاختلاط البلغم فجعل الرطوبة البلغمية مما يلي الحرارة الدموية ولو لم يكن كذلك لكان كما ذكرناه أولا من دخول العلة والسقم للزيادة في الكمية في ذلك الخلط ثم زوج بين البرودة واليبوسة فكان من ذلك المزج المرة السوداء فجعل اليبوسة من السوداء مما يلي الرطوبة من البلغم ولم يجعل البرودة من السوداء تليها لئلا تزيد في كمية رطوبة البلغم فإن الرطوبة منفعلة عن البرودة فإذا حصلت بين برودة البلغم وبرودة السوداء تضاعفت وزادت كمية البلغم فدخلت العلة والمرض على الجسم فإنها قابلة للانفعال فانظر لحكمة الله في هذه النشأة وهذا لبقاء الصحة على هذا الجسم الذي هو مركب هذه اللطيفة ليوصلها إلى ما دعاها إليه ربها عز وجل فهذا المركب الجسمي يستولي عليه الروح الإلهي فإذا تغشاه حمل فينتج أعمالا إما صالحة وهي المخلقة وإما فاسدة وهي غير المخلقة وظهرت هذه الأعمال في صور مراكب فإن كانت صالحة صعدت به إلى عليين قال تعالى إليه يصعد الكلم الطيب أي الأرواح الطيبة فإنها كلمات الله مطهرة قال تعالى وكلمته ألقاها إلى مريم وقال والعمل الصالح يرفعه كذلك إذا كان العمل فاسدا يهوى به إلى أسفل سافلين قال تعالى ثم رددناه أسفل سافلين أي هوى به مركبه وقد كان في أحسن تقويم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإن عمله يصعد به إلى عليين فيكون له أجر غير ممنون وهو الأجر المكتسب ولا يكون الأجر إلا مكتسبا فإن أعطى ما هو خارج عن الكسب لا يقال فيه أجر بل هو نور وهبات ولهذا قال في حق قوم لهم أجرهم ونورهم فأجرهم ما اكتسبوه ونورهم ما وهبهم الحق تعالى من ذلك حتى لا ينفرد الأجر من غير أن يختلط به الوهب حتى يشغل ذلك الوهب العبد عن معاينة سلطان الاستحقاق الذي يعطيه الأجر إذ كان معاوضة عن عمل متقدم مضاف إلى العبد فلا أجر إلا ويخالطه نور لما ذكرناه فإن النشأة على هذا الأصل قامت وذلك أن الجسم الطبيعي لما تركب وظهر بروحه الحساس لو ترك مستقلا لأهلكته الدعوى ولكن جعل الله له روحا ربانيا من نفس الرحمن الذي هو الروح الإلهي فظهرت لطيفة الإنسان نورا فوكلت بالجسم الحيواني فلهذا قرن الأنوار بالأجور حتى تكون المنة الإلهية تصحب هذا العبد حيث كان والله عليم حكيم ولهذا قلنا إن هذا منزل الاختلاط وإن كان يتضمن علوما جمة منها علم حروف المعاني لا حروف الهجاء وهل إذا دخل بعضها على بعض هل ينقلها عن مقام الحرفية إلى مقام الاسمية إذ الحرف لا يعمل في مثله وبما ذا يعمل حرف في حرف وليس كل حرف واحد بأقوى من صاحبه مثل دخول من على حرف عن فقد كان حرف عن يعطي معنى التجاوز فصيره حرف من يدل على الجهة والناحية كما يدل الاسم قال الشاعر من عن يمين الحبيا نظرة قبل فالعامل في يمين عن بلا شك ولكن هل عمل فيه عمل الحرفية لبقاء صورته أو عمل فيه عمل الإضافة وهو عمل الأسماء فيكون عمله من طريق المعنى الذي كساه من بدخوله عليه ويكون عن معمولا لمن أو يبقى على أصله فنقول بجواز دخول الحروف بعضها على بعض ونترك عمل الواحد منهما ونجعله زائدا كما نعمله في ما إذا جعلناها زائدة في قوله إذا ما راية رفعت لمجد فما هنا زائدة لأن الكلام يستقل دونها فتقول إذا راية فلا عمل هنا لها وكذلك حرف إن في قول امرئ القيس فما إن من حديث ولا صال فإن هنا زائدة لا عمل لها فيكون ذلك كذلك ولا مانع إذ لو حذفنا عن من قوله من عن يمين لم يختل المعنى ولا يخرج الحرف عن بابه إلى باب الاسمية من غير ضرورة وإذا أبدل الحرف من الحرف هل يعطي معنى ما أبدل منه أو هل يعطي خلافه ومما يتضمن هذا المنزل علم المراكب والركبان وعلم الزمان وعلم شرف الكلام وعلم شرف الذكر على الفكر وكون الحق وصف نفسه بالذكر وما وصف نفسه بالفكر مع أنه أثبت لنفسه التدبير وهو الفكر أو يقوم مقام اللازم له ويتضمن علم الخلق والصفات وعلم البيان وعلم الأحوال وعلم الاستعداد
(٣٣)