وغير ذلك غير أنهم مع ذلك يرون أن ثم شيئا فوق ما هم عليه من الأحوال والمقامات والعلوم والأسرار والكشوف والكرامات فتتعلق هممهم بنيلها فإذا نالوا شيئا من ذلك ظهروا به في العامة من الكرامات لأنهم لا يرون غير الله وهم أهل خلق وفتوة وهذا الصنف يسمى الصوفية وهم بالنظر إلى الطبقة الثالثة أهل رعونة وأصحاب نفوس وتلامذتهم مثلهم أصحاب دعاوى يشمرون على كل أحد من خلق الله ويظهرون الرياسة على رجال الله والصنف الثالث رجال لا يزيدون على الصلوات الخمس إلا الرواتب لا يتميزون عن المؤمنين المؤدين فرائض الله بحالة زائدة يعرفون بها يمشون في الأسواق ويتكلمون مع الناس لا يبصر أحد من خلق الله واحدا منهم يتميزون عن العامة بشئ زائد من عمل مفروض أو سنة معتادة في العامة قد انفردوا مع الله راسخين لا يتزلزلون عن عبوديتهم مع الله طرفة عين ولا يعرفون للرياسة طعما لاستيلاء الربوبية على قلوبهم وذلتهم تحتها قد أعلمهم الله بالمواطن وما تستحقه من الأعمال والأحوال وهم يعاملون كل موطن بما يستحقه قد احتجبوا عن الخلق واستتروا عنهم بستر العوام فإنهم عبيد خالصون مخلصون لسيدهم مشاهدون إياه على الدوام في أكلهم وشربهم ويقظتهم ونومهم وحديثهم معه في الناس يضعون الأسباب مواضعها ويعرفون حكمتها حتى تراهم كأنهم الذي خلق كل شئ مما تراهم من إثباتهم الأسباب وتحضيضهم عليها يفتقرون إلى كل شئ لأن كل شئ عندهم هو مسمى الله ولا يفتقر إليهم في شئ لأنه ما ظهر عليهم من صفة الغني بالله ولا العزة به ولا أنهم من خواص الحضرة الإلهية أمر يوجب افتقار الأشياء إليهم وهم يرون كون الأشياء لا تفتقر إليهم ويفتقرون إليها كون الله قال للناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد فهم وإن استغنوا بالله فلا يظهرون بصفة يمكن أن يطلق عليهم منها الاسم الذي قد وصف الله نفسه به وهو الاسم الغني وأبقوا لأنفسهم ظاهرا وباطنا الاسم الذي سماهم الله به وهو الفقير وقد علموا من هذا أن الفقر لا يكون إلا إلى الله الغني ورأوا الناس قد افتقروا إلى الأسباب الموضوعة كلها وقد حجبتهم في العامة عن الله وهم على الحقيقة ما افتقروا في نفس الأمر إلا إلى من بيده قضاء حوائجهم وهو الله قالوا فهنا قد تسمى الله بكل ما يفتقر إليه في الحقيقة والله لا يفتقر إلى شئ فلهذا افتقرت هذه الطائفة إلى الأشياء ولم تفتقر إليهم الأشياء وهم من الأشياء والله لا يفتقر إلى شئ ويفتقر إليه كل شئ فهؤلاء هم الملامية وهم أرفع الرجال وتلامذتهم أكبر الرجال يتقلبون في أطوار الرجولية وليس ثم من حاز مقام الفتوة والخلق مع الله دون غيره سوى هؤلاء فهم الذين حازوا جميع المنازل ورأوا أن الله قد احتجب عن الخلق في الدنيا وهم الخواص له فاحتجبوا عن الخلق لحجاب سيدهم فهم من خلف الحجاب لا يشهدون في الخلق سوى سيدهم فإذا كان في الدار الآخرة وتجلى الحق ظهر هؤلاء هناك لظهور سيدهم فمكانتهم في الدنيا مجهولة العين فالعباد متميزون عند العامة بتقشفهم وتبعدهم عن الناس وأحوالهم وتجنب معاشرتهم بالجسم فلهم الجزاء والصوفية متميزون عند العامة بالدعاوي وخرق العوائد من الكلام على الخواطر وإجابة الدعاء والأكل من الكون وكل خرق عادة لا يتحاشون من إظهار شئ مما يؤدي إلى معرفة الناس به قربهم من الله فإنهم لا يشاهدون في زعمهم إلا الله وغاب عنهم علم كبير وهذا الحال الذي هم فيه قليل السلامة من المكر والاستدراج والملامية لا يتميزون عن أحد من خلق الله بشئ فهم المجهولون حالهم حال العوام واختصوا بهذا الاسم لأمرين الواحد يطلق على تلامذتهم لكونهم لا يزالون يلومون أنفسهم في جنب الله ولا يخلصون لها عملا تفرح به تربية لهم لأن الفرح بالأعمال لا يكون إلا بعد القبول وهذا غائب عن التلامذة وأما الأكابر فيطلق عليهم في ستر أحوالهم ومكانتهم من الله حين رأوا الناس إنما وقعوا في ذم الأفعال واللؤم فيما بينهم فيها لكونهم لم يروا الأفعال من الله وإنما يرونها ممن ظهرت على يده فناطوا اللؤم والذم بها فلو كشف الغطاء ورأوا أن الأفعال لله لما تعلق اللؤم بمن ظهرت على يده وصارت الأفعال عندهم في هذه الحالة كلها شريفة حسنة وكذلك هذه الطائفة لو ظهرت مكانتهم من الله للناس لاتخذوهم آلهة فلما احتجبوا عن العامة بالعادة انطلق عليهم في العامة ما ينطلق على العامة من الملام فيما يظهر عنها مما يوجب ذلك وكان المكانة تلومهم حيث لم يظهروا عزتها وسلطانها فهذا سبب إطلاق هذا اللفظ في الاصطلاح عليهم وهي طريقة مخصوصة لا يعرفها كل أحد انفرد بها أهل الله وليس لهم في العامة حال يتميزون بها واعلم أن الحكيم
(٣٥)