فإنه لا ذوق له في الألوهة ولا خبرة له بها فما عنده منها إلا الأسماء خاصة فاسأل الله عن الله واسئل العبد عن العبودة فنسبة العبودة للعبد نسبة الألوهة لله فإخبار الحق عن العبودة اخبارا له وإخبار العبد عن الألوهة إخبار عبد ولذلك ورد من عرف نفسه عرف ربه فيعرف نفسه معرفة ذوق فلا يجد في نفسه للألوهة مدخلا فيعلم بالضرورة أن الله لو أشبهه أو كان مثلا له لعرفه في نفسه وعلم بافتقاره أن ثم من يفتقر إليه ولا يمكن أن يشبهه فعرف ربه أنه ليس مثله وإن كان الله قد أقامه خليفة وأوجده على الصورة فيخاف ويرجى ويطاع ويعصى فقد بينا معنى ذلك في هذه الآثار من هذا الباب وأما الأثر التاسع وهو قوله في خلق السماوات والأرض إنه ما خلقهما إلا بالحق أي ما خلقهما إلا له تعالى جده وتبارك اسمه لأنه قال وإن من شئ إلا يسبح بحمده فما خلق العالم إلا له تعالى ولذلك قال فيمن علم أنه جعل في نشأته عزة وهما الجن والإنس وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي ليتذللوا إلي لما ظهر فيهما من العزة ودعوى الألوهة والإعجاب بنفوسهم فمن لطف الله بهم أن ينبههم على ما أراد بهم في خلقه إياهم فمن تنبه كان من الكثير الذي يسجد لله ومن لم يتنبه كان من الكثير الذي حق عليه العذاب وأما قوله في هذه الآية وما خلقت الجن والإنس قد يريد به الإنسان وحده من حيث ما له ظاهر وباطن فمن حيث ما له ظاهر هو أنس من آنست الشئ إذا أبصرته قال تعالى في حق موسى إخبارا عنه إني آنست نارا أي أبصرت والجن باطن الإنسان فإنه مستور عنه فكأنه قال وما خلقت ما ظهر من الإنسان وما بطن إلا ليعبدون ظاهرا وباطنا فإن المنافق يعبده ظاهرا لا باطنا والمؤمن يعبده ظاهرا وباطنا والكافر المعطل لا يعبده لا في الظاهر ولا في الباطن وبعض العصاة يعبده باطنا لا ظاهرا وما ثم قسم خامس وما أخرجنا الجن الذين خلقهم الله من نار من هذه الآية وجعلناها في الإنسان وحده من جهة ما ظهر منه وما استتر إلا لقول الله لما ذكر السجود أنه ذكر جميع من يسجد له ممن في السماوات ومن في الأرض وقال في الناس وكثير من الناس فما عمهم ودخل الشياطين في قوله من في الأرض وذلك أن الشيطان وهو البعيد من الرحمة يقول للإنسان إذا أمره بالكفر فكفر إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين فأبان الله لنا عن معرفة الشيطان بربه وخوفه منه فلذلك كان صرف الجن في هذه الآية إلى ما استتر من الإنسان أولى من إطلاقه على الجان والله أعلم وأما الأثر العاشر فهو ما ظهر في العالم من إبانة الرسل المترجمين عن الله ما أنزل الله على عباده مع إنزال كتبه فما اكتفى بنزول الكتب الإلهية حتى جعل الرسل تبين ما فيها لما في العبارة من الإجمال وما تطلبه من التفصيل ولا تفصل العبارة إلا بالعبارة فنابت الرسل مناب الحق في التفصيل فيما لم يفصله وأجمله وهو قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم بعد تبليغه ما أنزل إلينا وهذه حقيقة سارية في العالم ولولاها ما شرحت الكتب ولا ترجمت من لسان إلى لسان ولا من حال إلى حال قال تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله وهو ما أنزله خاصة وأما ما فصله الرسول وأبان عنه فهو تفصيل ما نزل لا عين ما نزل ويقع البيان بعبارة خاصة ويعقل بأي شئ كان وأما الأثر الحادي عشر والثاني عشر فهما المرتبتان من المراتب الثلاثة التي ذكرناها في أول هذه لآثار وهما مرتبة الاتصال بالحق ومرتبة السبب الرابط بين الأمرين وقد تقدم فلنذكر ما في هذا المنزل من العلوم إن شاء الله فمن ذلك علم السبب الموجب لبقاء المؤمن في النعيم في دار النعيم وفيه علم أسباب الفوز والنجاة من الجهل الذي هو شر الشرور وفيه علم ما يستحقه الموطن من الأمور التي تكون بها السعادة للإنسان وقد تظهر في موطن آخر ولا تعطي سعادة وفيه علم كل ما ثبت عينه هل يسقط حكمه أو لا يسقط إلا حكم بعض ما ثبت عينه أو لا يسقط له حكم على الإطلاق بل يسقط عنه حكم خاص لا كل حكم فهل يشتغل بما سقط حكمه أو لا يشتغل به كلغو اليمين فإن الكفارة سقطت عنه في الحنث وفيه علم ما يظهر من الزيادة إذا أضيف الفعل إلى المخلوق بوجه شرعي يوجب ذلك أو كرم خلق عقلي وفيه علم الملأ والخلاء وفيه علم فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي وفيه علم التعدي في حدود الأشياء وهل الحد داخل في المحدود فلا يكون تعديا وإذا دخل كيف صورة دخوله والفرق بين قوله وأيديكم إلى المرافق وقوله أتموا الصيام إلى الليل وهذا حد بكلمة معينة تقتضي في الواحد خروج الحد من المحدود وفي الآخر دخول الحد في المحدود وينبغي هذا على معرفة الحد في نفسه ما هو فإن للحد حدا ولا يتسلسل وفيه علم العهود والأمانات وما هي الأمانات
(٣٠١)