فقد تبين الحق من الخلق من وجه وقد ظهر بصورته أيضا من وجه واعلم أن الطبيعة ظل النفس الكلية الموصوفة بالقوتين المعبر عنها بلسان الشرع باللوح المحفوظ فما لم يمتد من ظل النفس وبقي فيها فهو الذي نزلت به عن العقل في درجة النورية والإضاءة وما امتد من ظل النفس سمي طبيعة وكان امتداد هذا الظل على ذات الهيولى الكل فظهر من جوهر الهيولى والطبيعة الجسم الكل مظلما ولهذا شبهوه بالسبجة السوداء لهذه الظلمة الطبيعية وسموا النفس الزمردة الخضراء لما نزلت به عن العقل في النور وفي الجسم الكل ظهرت صور عالم الأجسام وأشكاله فكان ذلك للجسم الكل كالأعضاء فلما استعد الجسم بما استعد به توجهت عليه النفس وأنارته فانتشرت الحياة في جميع أعضائه كلها فتلك أرواح عالم الأجسام العلوي والسفلي من فلك وعنصر ثم استحال بعضه إلى بعضه لتأثير حكم الحركة الزمانية التي عينها الاسم الدهر في الأفلاك فظهرت للعين صور المولدات الفلكية كالكواكب والجنات ومرتبتها وما فيها والعنصرية من معدن ونبات وحيوان وصور غريبة وأشكال عجيبة في عين وجودية فما خرج شئ من العدم إلا الصور والأعراض من تركيب وتحليل والجوهر ثابت العين قابل لهذه الصور كلها دنيا وآخرة وإذا علمت هذا وتقرر فاعلم إن قوله تعالى يدبر الأمر يفصل الآيات أن المعنى المراد من ذلك التقدير والإيجاد فالتدبير للتقدير والتفصيل للإيجاد من فصلت الشئ عن الشئ إذا قطعته منه وفصلت بينه وبينه حتى تميز فإن كان الفصل عن تقدير فهو على صورته وشكله وإن كان عن غير تقدير فقد لا يكون على صورته وإن أشبهه في أمر ما فإنه يفارقه في أمر آخر كالبياض والسواد يشتركان في اللونية وإن كانا ضدين وكاللون والحركة يشتركان في العرضية وإن كانا مختلفين قال الشاعر ولأنت تفري ما خلقت * وبعض الناس يخلق ثم لا يفري وكالإسكاف وأمثاله من صائغ وخياط وحداد وأمثال ذلك يريد أن يقطع من جلد نعلا فيأخذ نعلا فيقدره على الجلد فإذا أخذ قدرة من الجلد قطع من الجلد ذلك المقدار وفصله منه والظلالات أوجدها الله على مثال الأشخاص ولما أراد فصلها مدها فظهرت أعيانها على صورة من هي ظله حذوك النعل بالنعل فلما خلق الله العالم دون الإنسان أي دون مجموعه حذا صورته على صورة العالم كله فما في العالم جزء إلا وهو على صورة الإنسان وأريد بالعالم كل ما سوى الله ففصله عن العالم بعد ما دبره وهو عين الأمر المدبر ثم إنه تعالى حذاه حذوا معنويا على حضرة الأسماء الإلهية فظهرت فيه ظهور الصور في المرآة للرائي ثم فصله عن حضرة الأسماء الإلهية بعد ما حصلت فيه قواها فظهر بها في روحه وباطنه فظاهر الإنسان خلق وباطنه حق وهذا هو الإنسان الكامل المطلوب وما عدا هذا فهو الإنسان الحيواني ورتبة الإنسان الحيواني من الإنسان الكامل رتبة خلق النسناس من الإنسان الحيواني هذا جملة الأمر في خلق الإنسان الكامل من غير تفصيل وأما تفصيل خلقه فاعلم إن الله لما خلق الأركان الأربعة دون الفلك وأدارها على شكل الفلك والكل أشكال في الجسم الكل فأول حركة فلكية ظهر أثرها فيما يليها من الأركان وهو النار فأثر فيه اشتعالا بما في الهواء من الرطوبة فكان ذلك الاشتعال واللهب من النار والهواء وهو المارج أي المختلط ومنه سمي المرج مرجا لأنه يحوي على أخلاط من الأزهار والنبات ومنه وقع الناس في هرج أي قتل ومرج أي اختلاط ففتح الله في تلك الشعلة الجان ثم أفاضت الكواكب النيرة بأمر الله وإذنه فإنه أوحى في كل سماء أمرها فطرحت شعاعها على الأركان والأركان مطارح الشعاعات فظهرت الأركان بالأنوار وأشرقت وأضاءت فأثرت وولدت فيها المعدن والنبات والحيوان وهي على الحقيقة التي أثرت في نفسها لأن الأفلاك أعني السماوات إنما أوجدها الله عن الأركان ثم أثرت في الأركان بحركاتها وطرح شعاعات كواكبها ليتولد ما تولد فيها من المولدات فبضاعتها ردت إليها فما أثر فيها سواها وجعل ذلك من أشراط الساعة فإنه من أشراطها أن تلد المرأة بعلها فولدت الأركان الفلك ثم نكحها الفلك فولد فيها ما ولد فهو ابنها زوجها ولم يظهر في الأركان صورة للإنسان الذي هو المطلوب من وجود العالم فأخذ التراب اللزج وخلطه بالماء فصيره طينا بيديه تعالى كما يليق بجلاله إذ ليس كمثله شئ وتركه مدة يختمر بما يمر عليه من الهواء الحار الذي يتخلل أجزاء طينته فتخمر وتغيرت رائحته فكان حمأ مسنونا متغير الريح ومن أراد أن يرى صدق ذلك إن كان في إيمانه
(٢٩٦)