مشركون فقد أثبتوا بكونهم مشركين عين ما دعاهم إليه هذا الرسول وهو ما أثبت الشريك وهم قالوا إنما ندعوهم ليقربونا إلى الله زلفى فأثبتوا له سبحانه وتعالى التعظيم والمنزلة العظمى التي ليست لشركائهم فمن هناك لم يتمكن لهم أن يقولوا في الجواب مثل ما قال لهم فإنه قال لهم ما ليس لي به علم وهم علماء بما دعاهم الرسول إليه فلما دعاهم دعاهم بحالهم ولسانهم من حيث ما أثبتوا عين ما دعاهم إليه وزادوا الشريك الذي لا علم لمحمد ص به فإذا قال صاحب الكشف لصاحب الفكر مثل هذا كان جواب صاحب الفكر له أشد في البعد عن الله من المشركين مع رسول الله ص وكان المشركون أسعد حالة من أصحاب الفكر فإنهم أثبتوا على كل حال عين ما دعاهم إليه أنه له المنزلة العلياء وهؤلاء قالوا إن الله لا يعلم ما نحن عليه حيث قالوا إنه أعظم من أن يعلم الجزئيات بل علمه في الأشياء علم كلي وهو أن يعلم أن في العالم من يتحرك ويسكن لا أنه يعلم أن زيد بن عمرو هو المتحرك عند زوال الشمس هذا أعطاهم فكرهم فمن هنا يعلم أن المشرك أسعد حالا منهم وأعطاهم فكرهم إن هذه النواميس الإلهية السائرة في العالم إمداد الأرواح العلوية للنفوس الفاضلة القابلة لمصالح العالم في الدنيا فهي أوضاع روحانية على السنة قوم قد خلصوا نفوسهم من رق الشهوات وأسر الطبيعة وصفوا مرائي قلوبهم فأقبلت عليهم الأرواح العلوية وجالسوا بأفكارهم الملأ الأعلى فأمدهم بما وضعوه في العالم من أسباب الخير فسموا أنبياء وحكماء ورسلا وليس إلا هذا وجعلوا ما وضعوه من الوعد والوعيد المغيب المسمى الدار الآخرة سياسات يسوسون بها النفوس الشوارد عن النظر فيما ينبغي لهم مما وجدوا له لا غير ونعوذ بالله من هذا القول وهذا العلم فهذا ما أعطاهم الفكر حيث استعملوه في غير موطنه وذهبوا به في غير مذهبه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وأما الطلسم الثاني وهو الخيال فيجسد المعاني ويدخلها في قالب الصور الحسية فهو طلسم أيضا على أهل الأفهام القاصرة التي لا علم لها بالمعاني المجردة عن المواد فلا تشهدها ولا يشهد هؤلاء إلا صورا جسدية فيحرم من حكم عليه طلسم الخيال إدراك الأمور على ما هي عليه في أنفسها من غير تخيل فهؤلاء لا يقبلون شيئا من المعاني مع علمهم بأنها ليست صورا جسدية إلا حتى يصوروها في خيالهم صورا متجسدة متحيزة متميزة فيجمعون بين النقيضين فأنتم تعلمون أنها ليست صورا ولا يقبلونها إلا صورا فمن أراد رفع حكم هذا الطلسم فإن الطلسم لا يرتفع أبدا من هذه النشأة فإنه وضع إلهي وكذلك جميع الطلسمات الإلهية لا ترتفع أعيانها ولا ترفع أحكامها في الموضع الذي جعل الحق تعالى حكمها فيه ولكن بعض الناس خرجوا بها عن طريقها فذلك الحكم الذي أعطاه ذلك الخروج هو الذي يرتفع لا غيره فاعلم ذلك فيرتفع حكم صاحب هذا الطلسم إذا أبصر الفكر قد دخل لخزانة هذا الخيال ثم انصرف خارجا منه فيصحبه إلى العقل ليشاهد المعاني مجردة عن الصور كما هي في نفسها فأول ما يشهد من ذلك حقيقة الفكر الذي صحبه إلى العقل فيراه مجردا عن المواد التي كان الخيال يعطيه إياها فيشكر الله ويقول هكذا كنت أعلمه قبل إن أشهده وما كان الغرض إلا أن يوافق الشهود العلم فإذا ارتفع إلى العقل شاهده أيضا مجردا عن المواد في نفسه فيحصل له أنس بعالم المعاني المجرد عن المواد فإذا تحقق بهذه المشاهدة انتقل إلى مشاهدة الحق الذي هو أثره في التجرد من المعاني فإنه وإن تجردت المعاني المحدثة فما تجردت عن حدوثها وإمكانها فيشاهد فيها صاحب هذا المقام عدمها الأصلي الذي كان لها ويشاهد حدوثها ويشاهد إمكانها كل ذلك في غير صورة مادية فإذا ارتقى إلى الحق فأول ما يشاهد منه عين إمكانه فيقع له عند هذا تحير فيه فإنه علمه غير ممكن فيأخذ الحق بيده في ذلك بأن يعرفه أن الذي شاهده من الحق ابتداء عين الإمكان الذي يرجع إلى المشاهد وهو الذي يقول فيه إنه يمكن أن يشهدني الحق نفسه ويمكن أن لا يشهدني فهذا الإمكان هو الذي ظهر له من الحق في أول شهوده فإنه قد ترجح له بالشهود أحد الوجهين من الإمكان فيسكن عند ذلك وتزول عنه الحيرة ثم يتجلى له الحق في غير مادة لأنه ليس عند ذلك في عالم المواد فيعلم من الله على قدر ما كان ذلك التجلي ولا يقدر أحد على تعيين ما تجلى له من الحق إلا أنه تجلى في غير مادة لا غير وسبب ذلك أن الله يتجلى لكل عبد من العالم في حقيقة ما هي عين ما تجلى بها لعبد آخر ولا هي عين ما يتجلى له بها في مجلي آخر فلذلك لا يتعين ما تجلى فيه ولا ينقال فإذا رجع هذا العبد من هذا المقام إلى عالم نفسه عالم المواد
(٢٣٤)