إيلافهم الرحلتين، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى: أما لا فليعبدوه. وقد تقدم صاحب الكشاف إلى هذا القول الخليل بن أحمد، والمعنى: إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة. وقال الكسائي والأخفش: اللام لام التعجب: أي اعجبوا لإيلاف قريش. وقيل هي بمعنى إلى. قرأ الجمهور " لإيلاف " بالياء مهموزا من ألفت أؤلف إئلافا. يقال: ألفت الشئ ألافا وألفا، وألفته إيلافا بمعنى، ومنه قول الشاعر:
المنعمين إذا النجوم تغيرت * والظاعنين لرحلة الإيلاف وقرأ ابن عامر " لإلاف " بدون الياء، وقرأ أبو جعفر " لإلف " وقد جمع بين هاتين القراءتين الشاعر، فقال:
زعمتم أن إخوتكم قريش * لهم إلف وليس لكم إلاف وقرأ عكرمة " ليألف قريش " بفتح اللام على أنها لام الأمر، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود وفتح لام الأمر لغة معروفة. وقرأ بعض أهل مكة " إلاف قريش " واستشهد بقول أبي طالب:
تذود الورى من عصبة هاشمية * إلا فهم في الناس خير إلاف وقريش هم: بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي، وقريش يأتي منصرفا إن أريد به الحي، وغير منصرف إن أريد به القبيلة ومنه قول الشاعر: وكفى قريش المعضلات وسادها * وقيل إن قريشا بنو فهر بن مالك بن النضر، والأول أصح، وقوله (إيلافهم) بدل من إيلاف قريش، و (رحلة) مفعول به لإيلافهم وأفردها، ولم يقل رحلتي الشتاء والصيف لأمن الإلباس، وقيل إن إيلافهم تأكيد للأول لا بدل، والأول أولى. ورجحه أبو البقاء، وقيل إن رحلة منصوبة بمصدر مقدر: أي ارتحالهم رحلة (الشتاء والصيف) وقيل هي منصوبة على الظرفية، والرحلة: الارتحال، وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء لأنها بلاد حارة، والرحلة الأخرى إلى الشام في الصيف لأنها بلاد باردة. وروى أنهم كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف. والأول أولى، فإن ارتحال قريش للتجارة معلوم معروف في الجاهلية والإسلام. قال ابن قتيبة: إنما كانت تعيش قريش بالتجارة وكانت لهم رحلتان في كل سنة: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، ولولا هاتان الرحلتان لم يمكن بها مقام، ولولا الأمن بجوارهم البيت لم يقدروا على التصرف (فليعبدوا رب هذا البيت) أمرهم سبحانه بعبادته بعد أن ذكر لهم ما أنعم به عليهم: أي إن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الخاصة المذكورة، والبيت الكعبة. وعرفهم سبحانه بأنه رب هذا البيت لأنها كانت لهم أوثان يعبدونها، فميز نفسه عنها. وقيل لأنهم بالبيت تشرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك تذكيرا لنعمته (الذي أطعمهم من جوع) أي أطعمهم بسبب تينك الرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، وقيل إن هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا عليهم، فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف، فاشتد القحط، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون، فدعا فأخصبوا وزال عنهم الجوع وارتفع القحط (وآمنهم من خوف) أي من خوف شديد كانوا فيه. قال ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض ويسبي بعضها بعضا، فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم. وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان: آمنهم من خوف الحبشة مع الفيل.
وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد قالت " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) ويحكم يا قريش، اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من