لما فرغ سبحانه من تعداد النعم الدنيوية على الثقلين ذكر نعمه الأخروية التي أنعم بها عليهم: فقال: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) مقامه سبحانه هو الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب، كما في قوله - يوم يقوم الناس لرب العالمين - فالمقام مصدر بمعنى القيام، وقيل المعنى خاف قيام ربه عليه، وهو إشرافه على أحواله واطلاعه على أفعاله وأقواله كما في قوله - أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت - قال مجاهد والنخعي: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه.
واختلف في الجنتين، فقال مقاتل: يعني جنة عدن وجنة النعيم، وقيل إحداهما التي خلقت له والأخرى ورثها. وقيل إحداهما منزله والأخرى منزل أزواجه. وقيل إحداهما أسافل القصور والأخرى أعاليها. وقيل جنة للخائف الإنسي، وجنة للخائف الجني، وقيل جنة لفعل الطاعة وأخرى لترك المعصية، وقيل جنة للعقيدة التي يعتقدها، وأخرى للعمل الذي يعمله، وقيل جنة بالعمل وجنة بالتفضيل، وقيل جنة روحانية وجنة جسمانية، وقيل جنة لخوفه من ربه وجنة لتركه شهوته، وقال الفراء: إنما هي جنة واحدة، والتثنية لأجل موافقة رؤوس الآي. قال النحاس: وهذا القول من أعظم الغلظ على كتاب الله، فإن الله يقول (جنتان) ويصفهما بقوله فيهما فيهما الخ (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن من جملتها هذه النعمة العظيمة، وهي إعطاء الخائف من مقام ربه جنتين متصفتين بالصفات الجليلة العظيمة (ذواتا أفنان) هذه صفة للجنتان، وما بينهما اعتراض، والأفنان الأغصان، واحدها فنن وهو الغصن المستقيم طولا، وبهذا قال مجاهد وعكرمة وعطية وغيرهم. وقال الزجاج: الأفنان الألوان واحدها فن، وهو الضرب من كل شئ، وبه قال عطاء وسعيد بن جبير، وجمع عطاء بين القولين، فقال في كل غصن فنون من الفاكهة، ومن إطلاق الفنن على الغصن قول النابغة: دعاء حمامة تدعو هديلا * مفجعة على فنن تغنى * وقول الآخر: ما هاج شوقك من هدير حمامة * تدعو على فنن الغصون حماما وقيل معنى (ذواتا أفنان) ذواتا فضل وسعة على ما سواهما، قاله قتادة، وقيل الأفنان: ظل الأغصان على الحيطان، روى هذا عن مجاهد وعكرمة (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن كل واحد منها ليس بمحل للتكذيب ولا بموضع للإنكار (فيهما عينان تجريان) هذا أيضا صفة أخرى لجنتان: أي في كل واحدة منهما عين جارية. قال الحسن: إحداهما السلسبيل والأخرى التسنيم. وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، قيل كل واحدة منهما مثل الدنيا أضعافا مضاعفة (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن من جملتها هذه النعمة