المقام هو ذلك الشاهد والمشهود الذي ذكر في آية أخرى، وإلا لزم أن يكون قوله هنا (وشاهد ومشهود) هو جميع ما أطلق عليه في الكتاب العزيز أو السنة المطهرة أنه يشهد أو أنه مشهود، وليس بعض ما استدلوا به مع اختلافه بأولى من بعض، ولم يقل قائل بذلك. فإن قلت: هل في المرفوع الذي ذكرته من حديثي أبي هريرة، وحديث أبي مالك، وحديث جبير بن مطعم ومرسل سعيد بن المسيب ما يعين هذا اليوم الموعود، والشاهد والمشهود؟ قلت: أما اليوم الموعود فلم تختلف هذه الروايات التي ذكر فيها، بل اتفقت على أنه يوم القيامة، وأما الشاهد ففي حديث أبي هريرة الأول أنه يوم الجمعة، وفي حديثه الثاني أنه يوم عرفة ويوم الجمعة، وفي حديث أبي مالك أنه يوم الجمعة، وفي حديث جبير أنه يوم الجمعة، وفي مرسل سعيد أنه يوم الجمعة، فاتفقت هذه الأحاديث عليه، ولا تضر زيادة يوم عرفة عليه في حديث أبي هريرة الثاني، وأما المشهود ففي حديث أبي هريرة الأول أنه يوم عرفة، وفي حديثه الثاني أنه يوم القيامة، وفي حديث أبي مالك أنه يوم عرفة، وفي حديث جبير ابن مطعم أنه يوم عرفة، وكذا في حديث سعيد فقد تعين في هذه الروايات أنه يوم عرفة، وهي أرجح من تلك الرواية التي صرح فيها بأنه يوم القيامة، فحصل من مجموع هذا رجحان ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، وأما اليوم الموعود فقد قدمنا أنه وقع الإجماع على أنه يوم القيامة.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " كان ملك من الملوك فيمن كان قبلكم، وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقال له ذلك الكاهن: انظروا لي غلاما فهما، أو قال فطنا لقنا فأعلمه علمي، فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه، قال: فنظروا له على ما وصف، فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه، فجعل الغلام يختلف إليه، وكان على طريق الغلام راهب في صومعة، فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به، فلم يزل به حتى أخبره فقال: إنما أعبد الله، فجعل الغلام يمكث عند هذا الراهب ويبطئ على الكاهن، فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني، فأخبر الغلام الراهب بذلك، فقال له الراهب:
إذا قال لك أين كنت؟ فقل عند أهلي، وإذا قال لك أهلك أين كنت؟ فأخبرهم أني كنت عند الكاهن، فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثير قد حبستهم دابة، يقال إنها كانت أسدا، فأخذ الغلام حجرا فقال:
اللهم إن كان ما يقول ذلك الراهب حقا فأسألك أن أقتل هذه الدابة، وإن كان ما يقول الكاهن حقا فأسألك أن لا أقتلها، ثم رمى فقتل الدابة، فقال الناس: من قتلها؟ فقالوا الغلام، ففزع الناس وقالوا: قد علم هذا الغلام علما لم يعلمه أحد، فسمع أعمى فجاءه فقال له: إن أنت رددت على بصري فلك كذا وكذا، فقال الغلام: لا أريد منك هذا، ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك؟ قال نعم، فدعا الله فرد عليه بصره فآمن الأعمى، فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال: لأقتلن كل واحد منكم قتله لا أقتل بها صاحبه، فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله، وقتل الآخر بقتلة أخرى، ثم أمر بالغلام فقال: انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسه، فانطلقوا به إلى ذلك الجبل، فلما انتهوا إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون حتى لم يبق منهم إلا الغلام، ثم رجع الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه، فانطلقوا به إلى البحر، فغرق الله الذين كانوا معه وأنجاه، فقال الغلام للملك: إنك لن تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول إذا رميتني: بسم الله رب الغلام، فأمر به