إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم يقدر أيضا أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه، وقيل طلوع الصبح كالمثال لمجئ الفرح، فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظرا لطلوع الصباح، كذلك الخائف يكون مترقبا لطلوع صباح النجاح، وقيل غير هذا مما هو مجرد بيان مناسبة ليس فيها كثير فائدة تتعلق بالتفسير (من شر ما خلق) متعلق بأعوذ: أي من شر كل ما خلقه سبحانه من جميع مخلوقاته فيعم جميع الشرور، وقيل هو إبليس وذريته، وقيل جهنم، ولا وجه لهذا التخصيص كما أنه لا وجه لتخصيص من خصص هذا العموم بالمضار البدنية. وقد حرف بعض المتعصبين هذه الآية مدافعة عن مذهبه وتقويما لباطله، فقرءوا بتنوين شر على أن " ما " نافية، والمعنى: من شر لم يخلقه، ومنهم عمرو بن عبيد وعمرو بن عائذ (ومن شر غاسق إذا وقب) الغاسق الليل، والغسق الظلمة، يقال غسق الليل يغسق إذا أظلم. قال الفراء: يقال غسق الليل وأغسق إذا أظلم، ومنه قول قيس بن الرقيات:
إن هذا الليل قد غسقا * واشتكيت الهم والأرقا وقال الزجاج: قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار، والغاسق البارد، والغسق البرد، ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها والهوام من أماكنها وينبعث أهل الشر على العبث والفساد، كذا قال، وهو قول بارد، فإن أهل اللغة على خلافه، وكذا جمهور المفسرين. ووقوبه: دخول ظلامه، ومنه قول الشاعر:
وقب العذاب عليهم فكأنهم * لحقتهم نار السموم فأخمدوا أي دخل العذاب عليهم، ويقال وقبت الشمس: إذا غابت، وقيل الغاسق الثريا، وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك، وبه قال ابن زيد. وهذا محتاج إلى نقل عن العرب أنهم يصفون الثريا بالغسوق. وقال الزهري: هو الشمس إذا غربت، وكأنه لاحظ معنى الوقوب ولم يلاحظ معنى الغسوق، وقيل هو القمر إذا خسف، وقيل إذا غاب. وبهذا قال قتادة وغيره، واستدلوا بحديث أخرجه أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه، وابن مردويه عن عائشة قالت " نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما إلى القمر لما طلع فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب ". قال الترمذي: بعد إخراجه حسن صحيح، وهذا لا ينافي قول الجمهور، لأن القمر آية الليل ولا يوجد له سلطان إلا فيه، وهكذا يقال في جواب من قال إنه الثريا. قال ابن الأعرابي: في تأويل هذا الحديث: وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر. وقيل الغاسق: الحية إذا لدغت. وقيل الغاسق: كل هاجم يضر كائنا ما كان، من قولهم غسقت القرحة: إذا جرى صديدها. وقيل الغاسق هو السائل، وقد عرفناك أن الراجح في تفسير هذه الآية هو ما قاله أهل القول الأول، ووجه تخصيصه أن الشر فيه أكثر، والتحرز من الشرور فيه أصعب، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل (ومن شر النفاثات في العقد) النفاثات هن السواحر: أي ومن شر النفوس النفاثات، أو النساء النفاثات، والنفخ كما يفعل ذلك من يرقى ويسحر، قيل مع ريق، وقيل بدون ريق، والعقد جمع عقدة، وذلك أنهن كن ينفثن في عقد الخيوط حين يسحرن بها، ومنه قول عنترة: فان يبرأ فلم أنفث عليه * وإن يعقد فحق له العقود وقول متمم بن نويرة:
نفث في الخيط شبيه الرقي * من خشية الجنة والحاسد