مقتضى اللغة العربية، ولكنه لا يتم جعل قوله (ولا أنتم عابدون ما أعبد) للاستقبال، لأن الجملة اسمية تفيد الدوام والثبات في كل الأوقات فدخول النفي عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام، والثبات في كل الأوقات، ولو كان حملها على الاستقبال صحيحا للزم مثله في قوله (ولا أنا عابد ما عبدتم) وفي قوله (ولا أنتم عابدون ما أعبد) فلا يتم ما قيل من حمل الجملتين الأخريين على الحال، وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس، لأن الجملة الثانية والثالثة والرابعة كلها جمل اسمية مصدرة بالضمائر التي هي المتبدأ في كل واحد منها مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيما بعده منفية كلها بحرف واحد، وهو لفظ لا في كل واحد منها، فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة. وأما قول من قال: إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال، فهو إقرار منه بالتكرار، لأن حمل هذا على معنى وحمل هذا على معنى مع الاتحاد يكون من باب التحكم الذي لا يدل عليه عليل.
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب، ومن مذاهبهم التي لا تجحد، واستعمالاتهم التي لا تنكر أنهم إذا أرادوا التأكيد كرروا، كما أن من مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا، هذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه لأنه إنما يستدل على ما فيه خفاء ويبرهن على ما هو متنازع فيه. وأما ما كان من الوضوح والظهور والجلاء بحيث لا يشك فيه شاك، ولا يرتاب فيه مرتاب فهو مستغن عن التطويل غير محتاج إلى تكثير القال والقيل. وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن، وربما يكثر في بعض السور كما في سورة الرحمن وسورة المرسلات وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر، ومن ذلك قول الشاعر: يالبكر انشروا لي كليبا * يالبكر أين أين الفرار وقول الآخر: هلا سألت جموع كندة * يوم ولوا أين أينا وقول الآخر: يا علقمة يا علقمة يا علقمة * خير تميم كلها وأكرمه وقول الآخر: ألا يا اسلمي ثمت اسلمي * ثلاث تحيات وإن لم تكلم وقول الآخر: يا جعفر يا جعفر يا جعفر * إن أك دحداحا فأنت أقصر وقول الآخر: * أتاك أتاك اللاحقوك احبس احبس * وقد ثبت عن الصادق المصدوق، وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات، وإذا عرفت هذا ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم، وإنما عبر سبحانه بما التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة لأنه يجوز ذلك كما في قوله: سبحان ما سخركن لنا ونحوه، والنكتة في ذلك أن يجرى الكلام على نمط واحد ولا يختلف.
وقيل إنه أراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق. وقيل إن " ما " في المواضع الأربعة هي المصدرية لا الموصولة: أي لا أعبد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتي الخ، وجملة (لكم دينكم) مستأنفة لتقرير قوله (لا أعبد ما تعبدون) وقوله (ولا أنا عابد ما عبدتم) كما أن قوله (ولى دين) تقرير لقوله (ولا أنتم عابدون) ما أعبد) في الموضعين: أي إن رضيتم بدينكم فقد رضيت بديني كما في قوله - لنا أعمالنا ولكم أعمالكم - والمعنى:
أن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول لي كما تطمعون، وديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم. وقيل المعنى: لكم جزاؤكم ولي جزائي، لأن الدين الجزاء. قيل وهذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل ليست بمنسوخة، لأنها أخبار والأخبار لا يدخلها النسخ