المفسرين جميعا أن المعنى: لعن الكذابون. قال ابن الأنباري: والقتل إذا أخبر به عن الله كان بمعنى اللعن، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قال الفراء: معنى قتل لعن. والخراصون الكذابون الذين يتخرصون فيما لا يعلمون فيقولون: إن محمدا مجنون كذاب شاعر ساحر. قال الزجاج: الخراصون هم الكذابون، والخرص:
حزر ما على النخل من الرطب تمرا، والخراص: الذي يخرصها، وليس هو المراد هنا، ثم قال (الذين هم في غمرة ساهون) أي في غفلة وعمى جهالة عن أمور الآخرة، ومعنى ساهون: لاهون غافلون، والسهو: الغفلة عن الشئ وذهابه عن القلب، وأصل الغمرة ما ستر الشئ وغطاه، ومنها غمرات الموت (يسألون أيان يوم الدين) أي يقولون متى يوم الجزاء تكذيبا منهم واستهزاء. ثم أخبر سبحانه عن ذلك اليوم فقال (يوم هم على النار يفتنون) أي يحرقون ويعذبون. يقال فتنت الذهب: إذا أحرقته لتختبره، وأصل الفتنة الاختبار. قال عكرمة: ألم تر أن الذهب إذا أدخل النار قيل فتن. وانتصاب يوم بمضمر: أي الجزاء: يوم هم على النار، ويجوز أن يكون بدلا من يوم الدين، والفتح للبناء لكونه مضافا إلى الجملة، وقيل هو منصوب بتقدير أعني. وقرأ ابن أبي عبلة برفع " يوم " على البدل من يوم الدين، وجملة (ذوقوا فتنتكم) هي بتقدير القول: أي يقال لهم ذوقوا عذابكم قاله ابن زيد.
وقال مجاهد: حريقكم، ورجح الأول الفراء، وجملة (هذا الذي كنتم به تستعجلون) من جملة ما هو محكي بالقول: أي هذا ما كنتم تطلبون تعجيله استهزاء منكم، وقيل هي بدل من فتنتكم (إن المتقين في جنات وعيون) لما ذكر سبحانه حال أهل النار ذكر حال أهل الجنة: أي هم في بساتين فيها عيون جارية لا يبلغ وصفها الواصفون (آخذين ما آتاهم ربهم) أي قابلين ما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة، وجملة (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين) تعليل لما قبلها: أي لأنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة من فعل ما أمروا به وترك ما نهوا عنه.
ثم بين إحسانهم الذي وصفهم به فقال (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) الهجوع: النوم بالليل دون النهار، والمعنى: كانوا قليلا ما ينامون من الليل، وما زائدة، ويجوز أن تكون مصدرية أو موصولة: أي كانوا قليلا من الليل هجوعهم أو ما يهجعون فيه، ومن ذلك قول أبي قيس بن الأسلت:
قد حصت البيضة رأسي * فما أطعم نوما غير تهجاع والتهجاع: القليل من النوم، ومن ذلك قول عمرو بن معدي كرب:
أمن ريحانة الداعي السميع * يهيجني وأصحابي هجوع وقيل ما نافية: أي ما كانوا ينامون قليلا من الليل، فكيف بالكثير منه، وهذا ضعيف جدا. وهذا قول من قال: إن المعنى كان عددهم قليلا. ثم ابتدأ فقال (ما يهجعون) وبه قال ابن الأنباري وهو أضعف مما قبله.
وقال قتادة في تفسير هذه الآية: كانوا يصلون بين العشاءين، وبه قال أبو العالية وابن وهب (وبالأسحار هم يستغفرون) أي يطلبون في أوقات السحر من الله سبحانه أن يغفر ذنوبهم. قال الحسن: مدوا الصلاة إلى الأسحار، ثم أخذوا بالأسحار الاستغفار. وقال الكلبي ومقاتل ومجاهد: هم بالأسحار يصلون، وذلك أن صلاتهم طلب منهم للمغفرة. وقال الضحاك: هي صلاة الفجر. ثم ذكر سبحانه صدقاتهم فقال (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) أي يجعلون في أموالهم على أنفسهم حقا للسائل والمحروم تقربا إلى الله عز وجل. وقال محمد بن سيرين وقتادة:
الحق هنا الزكاة المفروضة، والأول أولى، فيحمل على صدقة النفل وصلة الرحم وقرى الضيف، لأن السورة مكية، والزكاة لا تفرض إلا بالمدينة، وسيأتي في سورة سأل سائل - وفي أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم - بزيادة معلوم، والسائل هو الذي يسأل الناس لفاقته.