وآله وسلم (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به) يعنون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أو القرآن (يغفر لكم من ذنوبكم) أي بعضها، وهو ما عدا حق العباد، وقيل إن من هنا لابتداء الغاية. والمعنى: أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى، وقيل هي زائدة (ويجركم من عذاب أليم) وهو عذاب النار، وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجن حكم الإنس في الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي. وقال الحسن ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، وبه قال أبو حنيفة. والأول أولى، وبه قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى. وعلى القول الأول، فقال القائلون به أنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم: كونوا ترابا، كما يقال للبهائم والثاني أرجح. وقد قال الله سبحانه في مخاطبة الجن والإنس - ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان - فأمتن سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، ولا ينافي هذا الاقتصار ها هنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم، ومما يؤيد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار وهو مقام عدل، فكيف لا يجازي محسنهم بالجنة وهو مقام فضل، ومما يؤيد هذا أيضا ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة، وجزاء من عمل الصالحات الجنة، وجزاء من قال لا إله إلا الله الجنة، وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة.
وقد اختلف أهل العلم هل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم أم لا، وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس فقط كما في قوله - وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى -. وقال - وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق - وقال سبحانه في إبراهيم الخليل - وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب -، فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فهو من ذريته، وأما قوله تعالى في سورة الأنعام - يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم - فقيل المراد من مجموع الجنسين وصدق على أحدهما، وهم الإنس: كقوله - يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان - أي من أحدهما (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض) أي لا يفوت الله ولا يسبقه ولا يقدر على الهرب منه، لأنه وإن هرب كل مهرب فهو في الأرض لا سبيل له إلى الخروج منها، وفي هذا ترهيب شديد (وليس له من دونه أولياء أي أنصار يمنعونه من عذاب الله، بين سبحانه بعد استحالة نجاته بنفسه استحالة نجاته بواسطة غيره، والإشارة بقوله (أولئك) إلى من لا يجب داعي الله، وأخبر أنهم (في ضلال مبين) أي ظاهر واضح. ثم ذكر سبحانه دليلا على البعث، فقال (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض) الرؤية هنا هي القلبية التي بمعنى العلم والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر: أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الذي خلق هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض ابتداء (ولم يعي بخلقهن) أي لم يعجزه عن ذلك ولا ضعف عنه، يقال على بالأمر وعي: إذا لم يهتد لوجهه، ومنه قول الشاعر:
عيوا بأمرهم كما * عيت ببيضتها الحمامة قرأ الجمهور " ولم يعي " بسكون العين وفتح الياء مضارع عيى. وقرأ الحسن بكسر العين وسكون الياء (بقادر على أن يحيى الموتى). قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة للتوكيد، كما في قوله - وكفى بالله شهيدا -. قال الكسائي والفراء والزجاج: العرب تدخل الباء مع الجحد والاستفهام، فنقول ما أظنك بقائم، والجار والمجرور في محل رفع على أنهما خبر لأن، وقرأ ابن مسعود وعيسى بن عمر والأعرج والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب وزيد بن علي " يقدر " على صيغة المضارع، واختار أبو عبيد القراءة الأولى، واختار أبو حاتم القراءة الثانية قال:
لأن دخول الباء في خبر أن قبيح (بلى إنه على كل شئ قدير) لا يعجزه شئ (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) الظرف متعلق بقول مقدر: أي يقال ذلك اليوم للذين كفروا (أليس هذا بالحق) وهذه الجملة هي المحكية