أي لم تصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية وطمأنينة (ولكن قولوا أسلمنا) أي استسلمنا خوف القتل والسبي أو للطمع في الصدقة، وهذه صفة المنافقين لأنهم أسلموا في ظاهر الأمر ولم تؤمن قلوبهم، ولهذا قال سبحانه (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) أي لم يكن ما أظهرتموه بألسنتكم عن مواطأة قلوبكم، بل مجرد قول باللسان من دون اعتقاد صحيح ولا نية خالصة، والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها، أو في محل نصب على الحال، وفي " لما " معنى التوقع. قال الزجاج: الإسلام إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي، وبذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان وصاحبه المؤمن. وقد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) أي لم تصدقوا وإنما أسلمتم تعوذا من القتل (وإن تطيعوا الله ورسوله) طاعة صحيحة صادرة عن نيات خالصة، وقلوب مصدقة غير منافقة (لا يلتكم من أعمالكم شيئا) يقال لات يلت: إذا نقص، ولاته يليته ويلوته: إذا نقصه، والمعنى: لا ينقصكم من أعمالكم شيئا. قرأ الجمهور " يلتكم " من لاته يليته كباع يبيعه. وقرأ أبو عمرو " لا يألتكم " بالهمز من ألته يألته بالفتح في الماضي والكسر في المضارع، واختار قراءة أبي عمرو أبو حاتم لقوله - وما ألتناهم من عملهم من شئ - وعليها قول الشاعر:
أبلغ بني أسد عني مغلغلة * جهر الرسالة لا ألتا ولا كذبا واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور، وعليها قول رؤبة بن العجاج:
وليلة ذات ندى سريت * ولم يلتنى عن سراها ليت وهما لغتان فصيحتان (إن الله غفور) أي بليغ المغفرة لمن فرط منه ذنب (رحيم) بليغ الرحمة لهم. ثم لما ذكر سبحانه أن أولئك الذين قالوا آمنا لم يؤمنوا ولا دخل الإيمان في قلوبهم بين المؤمنين المستحقين لإطلاق اسم الإيمان عليهم فقال (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله) يعني إيمانا صحيحا خالصا عن مواطأة القلب واللسان (ثم لم يرتابوا) أي لم يدخل قلوبهم شئ من الريب ولا خالطهم شك من الشكوك (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) أي في طاعته وابتغاء مرضاته، ويدخل في الجهاد الأعمال الصالحة التي أمر الله بها، فإنها من جملة ما يجاهد المرء به نفسه حتى يقوم به ويؤديه كما أمر الله سبحانه، والإشارة بقوله (أولئك) إلى الجامعين بين الأمور المذكورة وهو مبتدأ، وخبره قوله (هم الصادقون) أي الصادقون في الاتصاف بصفة الإيمان والدخول في عداد أهله، لا من عداهم ممن أظهر الإسلام بلسانه، وادعى أنه مؤمن، ولم يطمئن بالإيمان قلبه، ولا وصل إليه معناه، ولا عمل بأعمال أهله، وهو الأعراب الذين تقدم ذكرهم وسائر أهل النفاق. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لأولئك الأعراب وأمثالهم قولا آخر لما ادعوا أنهم مؤمنون فقال (قل أتعلمون الله بدينكم) التعليم ها هنا بمعنى الإعلام، ولهذا دخلت الباء في بدينكم: أي أتخبرونه بذلك حيث قلتم آمنا (والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض) فكيف يخفي عليه بطلان ما تدعونه من الإيمان، والجملة في محل النصب على الحال من مفعول تعلمون (والله بكل شئ عليم) لا تخفى عليه من ذلك خافية، وقد علم ما تبطنونه من الكفر وتظهرونه من الإسلام لخوف الضراء ورجاء النفع. ثم أخبر الله سبحانه رسوله بما يقوله لهم عند المن عليه منهم بما يدعونه من الإسلام فقال (يمنون عليك أن أسلموا) أي يعدون إسلامهم منة عليك حيث قالوا جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان (قل لا تمنوا على إسلامكم) أي لا تعدوه منه على، فإن الإسلام هو المنة التي لا يطاب موليها ثوابا لمن أنعم بها عليه، ولهذا قال (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) أي أرشدكم إليه وأراكم طريق