حسنة) أي لقد كان لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة، وكرر هذا للمبالغة والتأكيد، وقيل إن هذا نزل بعد الأول بمدة (لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) بدل من قوله لكم بدل بعض من كل، والمعنى: أن هذه الأسوة إنما تكون لمن يخاف الله ويخاف عقاب الآخرة، أو يطمع في الخير من الله في الدنيا وفي الآخرة (ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) أي يعرض عن ذلك، فإن الله هو الغني عن خلقه الحميد إلى أوليائه (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) وذلك بأن يسلموا فيصيروا من أهل دينكم، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة، وحسن إسلامهم، ووقعت بينهم وبين من تقدمهم في الإسلام مودة وجاهدوا وفعلوا الأفعال المقربة إلى الله. وقيل المراد بالمودة هنا تزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان. ولا وجه لهذا التخصيص وإن كان من جملة ما صار سببا إلى المودة، فإن أبا سفيان بعد ذلك ترك ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنها لم تحصل المودة إلا بإسلامه يوم الفتح وما بعده (والله قدير) أي بليغ القدرة كثيرها (والله غفور رحيم) أي بليغهما كثيرهما. ثم لما ذكر سبحانه ما ينبغي للمؤمنين من معاداة الكفار وترك موادتهم فصل القول فيمن يجوز بره منهم ومن لا يجوز فقال لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم) أي لا ينهاكم عن هؤلاء (أن تبروهم) هذا بدل من الموصول بدل اشتمال، وكذا قوله (وتقسطوا إليهم) يقال أقسطت إلى الرجل: إذا عاملته بالعدل. قال الزجاج: المعنى وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد إن الله يحب المقسطين) أي العادلين، ومعنى الآية: أن الله سبحانه لا ينهى عن بر أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم، ولا ينهى عن معاملتهم بالعدل. قال ابن زيد: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ. قال قتادة: نسختها - فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم - وقيل هذا الحكم كان ثابتا في الصلح بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم. وقيل هي خاصة في حلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بينه وبينه عهد قاله الحسن. وقال الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف. وقال مجاهد: هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا، وقيل هي خاصة بالنساء والصبيان. وحكى القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة.
ثم بين سبحانه من لا يحل بره ولا العدل في معاملته فقال (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم) وهم صناديد الكفر من قريش (وظاهروا على إخراجكم) أي عاونوا الذين قاتلوكم على ذلك، وهم سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم، وقوله (أن تولوهم) بدل اشتمال من الموصول كما سلف (ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) أي الكاملون في الظلم لأنهم تولوا من يستحق العداوة لكونه عدوا لله ولرسوله ولكتابه وجعلوهم أولياء لهم.
وقد أخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس (إلا قول إبراهيم لأبيه) قال: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه، وقوله (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك، فيقولون لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة) قال: في صنيع إبراهيم كله إلا في الاستغفار لأبيه، وهو مشرك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) قال: لا تسلطهم علينا فيفتنونا. وأخرج ابن مردويه عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: أول من قاتل أهل الردة على إقامة دين الله أبو سفيان بن حرب وفيه نزلت هذه الآية (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة). وأخرج