النصر والفتح لأم القرى التي كان أهلها قد بلغوا في عداوته إلى أعلى المبالغ حتى أخرجوه منها بعد أن افتروا عليه من الأقوال الباطلة، والأكاذيب المختلفة ما هو معروف من قولهم: هو مجنون، هو ساحر، هو شاعر، هو كاهن، ونحو ذلك. ثم ضم سبحانه إلى ذلك أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار: أي اطلب منه المغفرة لذنبك هضما لنفسك واستقصارا لعملك، واستدراكا لما فرط منك من ترك ما هو الأولى، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يرى قصوره عن القيام بحق الله ويكثر من الاستغفار والتضرع وإن كان قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وقيل إن الاستغفار منه صلى الله عليه وآله وسلم ومن سائر الأنبياء هو تعبد تعبدهم الله به، لا لطلب المغفرة لذنب كائن منهم. وقيل إنما أمره الله سبحانه بالاستغفار تنبيها لأمته وتعريضا بهم، فكأنهم هم المأمورون بالاستغفار. وقيل إن الله سبحانه أمره بالاستغفار لأمته لا لذنبه. وقيل المراد بالتسبيح هنا الصلاة.
والأولى حمله على معنى التنزيه مع ما أشرنا إليه من كون فيه معنى التعجب سرورا بالنعمة، وفرحا بما هيأه الله من نصر الدين، وكبت أعدائه ونزول الذلة بهم وحصول القهر لهم. قال الحسن: أعلم الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والتوبة ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح، فكان يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك اغفر لي إنك أنت التواب. قال قتادة ومقاتل: وعاش صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين، وجملة (إنه كان توابا) تعليل لأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار: أي من شأنه التوبة على المستغفرين له يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم، وتواب من صيغ المبالغة، ففيه دلالة على أنه سبحانه مبالغ في قبول توبة التائبين. وقد حكى الرازي في تفسيره اتفاق الصحابة على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عمر سألهم عن قول الله (إذا جاء نصر الله والفتح) فقالوا: فتح المدائن والقصور، قال: فأنت يا ابن عباس ما تقول؟ قال: قلت مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نعيت له نفسه. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من قد علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل (إذا جاء نصر الله والفتح)؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي:
أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت لا، فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلمه الله له، قال (إذا جاء نصر الله والفتح) فذلك علامة أجلك (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول. وأخرج ابن النجار عن سهل بن سعد عن أبي بكر أن سورة (إذا جاء نصر الله والفتح) حين أنزلت على رسول الله أن نفسه نعيت إليه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من قول: سبحان الله وبحمده، وأستغفره وأتوب إليه، فقلت: يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه، فقال:
خبرني ربي أني سأرى علامة من أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها (إذا جاء نصر الله والفتح) فتح مكة (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) ". وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن عائشة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك،