وانتصاب خشعا على الحال من فاعل يخرجون، أو من الضمير في عنهم، والخشوع في البصر الخضوع والذلة، وأضاف الخشوع إلى الأبصار لأن العز والذل يتبين فيها (يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر) أي يخرجون من القبور، وواحد الأجداث جدث وهو القبر، كأنهم لكثرتهم واختلاط بعضهم ببعض جراد منتشر: أي منبث في الأقطار مختلط بعضه ببعض (مهطعين إلى الداع) الإهطاع: الإسراع أي قال كونهم مسرعين إلى الداعي، وهو إسرافيل، ومنه قول الشاعر:
بدجلة دارهم ولقد أراهم * بدجلة مهطعين إلى السماع * أي مسرعين إليه. وقال الضحاك: مقبلين. وقال قتادة: عامدين. وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلي الصوت، والأول أولى، وبه قال أبو عبيدة وغيره، وجملة (يقول الكافرون هذا يوم عسر) في محل نصب على الحال من ضمير مهطعين، والرابط مقدر أو مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا يكون حينئذ. والعسر: الصعب الشديد، وفي إسناد هذا القول إلى الكفار دليل على أن اليوم ليس بشديد على المؤمنين. ثم ذكر سبحانه تفصيل بعض ما تقدم من الأنباء المجملة فقال (كذبت قبلهم قوم نوح) أي كذبوا نبيهم، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله (فكذبوا عبدنا) تفسير لما قبله من التكذيب المبهم، وفيه مزيد تقرير وتأكيد: أي فكذبوا عبدنا نوحا، وقيل المعنى: كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا نوحا بتكذيبهم للرسل فإنه منهم. ثم بين سبحانه أنهم لم يقتصروا على مجرد التكذيب فقال (وقالوا مجنون) أي نسبوا نوحا إلى الجنون، وقوله (وازدجر) معطوف على قالوا: أي وزجر عن دعوى النبوة وعن تبليغ ما أرسل به بأنواع الزجر، والدال بدل من تاء الافتعال كما تقدم قريبا، وقيل إنه معطوف على مجنون: أي وقالوا إنه ازدجر: أي ازدجرته الجن وذهبت بلبه، والأول أولى. قال مجاهد: هو من كلام الله سبحانه أخبر عنه بأنه انتهر وزجر بالسب وأنواع الأذى. قال الرازي: وهذا أصح، لأن المقصود تقوية قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذكر من تقدمه (فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر) أي دعا نوح ربه على قومه بأني مغلوب من جهة قومي لتمردهم عن الطاعة وزجرهم لي عن تبليغ الرسالة، فانتصر لي: أي انتقم لي منهم. طلب من ربه سبحانه النصرة عليهم لما أيس من إجابتهم وعلم تمردهم وعتوهم وإصرارهم على ضلالتهم. قرأ الجمهور " أنى " بفتح الهمزة: أي بأني. وقرأ ابن أبي إسحاق والأعمش بكسر الهمزة، ورويت هذه القراءة عن عاصم على تقدير إضمار القول: أي فقال. ثم ذكر سبحانه ما عاقبهم به فقال (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) أي منصب انصبابا شديدا، والهمر: ما الصب بكثرة، يقال: همر الماء والدمع يهمر همرا وهمورا: إذا كثر، ومنه قول الشاعر:
أعيني جودا بالدموع الهوامر * على خير باد من معد وحاضر ومنه قول امرئ القيس يصف عينا:
راح تمر به الصبا ثم انتحى * فيه بشؤبوب جنوب منهمر قرأ الجمهور " فتحنا " مخففا. وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد (وفجرنا الأرض عيونا) أي جعلنا الأرض كلها عيونا متفجرة، والأصل فجرنا عيون الأرض. قرأ الجمهور " فجرنا بالتشديد. وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة وعاصم في رواية عنه بالتخفيف. قال عبيد بن عمير: أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون (فالتقى الماء على أمر قد قدر) أي التقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضى عليهم: أي كائنا على حال قدرها الله وقضى بها. وحكى ابن قتيبة أن المعنى على مقدار لم يرد أحدهما على الآخر، بل كان ماء السماء وماء