قوله (قل أوحى إلى) قرأ الجمهور " أوحى " رباعيا. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو إياس والعتكي عن أبي عمرو " وحى " ثلاثيا، وهما لغتان. واختلف هل رآهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم لم يرهم؟ فظاهر القرآن أنه لم يرهم، لأن المعنى: قل يا محمد لأمتك أوحى إلى علي لسان جبريل (أنه استمع نفر من الجن) ومثله قوله - وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن - ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجن وما رآهم. قال عكرمة: والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي - اقرأ باسم ربك الذي خلق - وقد تقدم في سورة الأحقاف ذكر ما يفيد زيادة في هذا. قوله (أنه استمع نفر من الجن) هذا هو القائم مقام الفاعل، ولهذا فتحت أن، والضمير للشأن، وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائم مقام الفاعل الجار والمجرور، والنفر اسم للجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة. قال الضحاك:
والجن ولد الجان وليسوا شياطين. وقال الحسن: إنهم ولد إبليس. قيل هم أجسام عاقلة خفية تغلب عليهم النارية والهوائية، وقيل نوع من الأرواح المجردة، وقيل هي النفوس البشرية المفارقة لأبدانها.
وقد اختلف أهل العلم في دخول مؤمني الجن الجنة كما يدخل عصاتهم النار لقوله في سورة تبارك - وجعلناها رجوما للشياطين. وأعتدنا لهم عذاب السعير - وقول الجن فيما سيأتي في هذه السورة، - وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا - وغير ذلك من الآيات، فقال الحسن: يدخلون الجنة، وقال مجاهد: لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار، والأول أولى لقوله في سورة الرحمن - لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان - وفي سورة الرحمن آيات غير هذه تدل على ذلك فراجعها، وقد قدمنا أن الحق أنه لم يرسل الله إليهم رسلا منهم، بل الرسل جميعا من الإنس، وإن أشعر قوله - ألم يأتكم رسل منكم - بخلاف هذا فهو مدفوع الظاهر بآيات كثيرة في الكتاب العزيز دالة على أن الله سبحانه لم يرسل الرسل إلا من بني آدم، وهذه الأبحاث الكلام فيها يطول، والمراد الإشارة بأخصر عبارة (فقالوا إذا سمعنا قرآنا عجبا) أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم: أي سمعنا كلاما مقروءا عجبا في فصاحته وبلاغته، وقيل عجبا في مواعظه، وقيل في بركته، وعجبا مصدر وصف به للمبالغة، أو على حذف المضاف: أي ذا عجب أو المصدر بمعنى اسم الفاعل: أي معجبا (يهدي إلى الرشد) أي إلى مراشد الأمور، وهي الحق والصواب، وقيل إلى معرفة الله، والجملة صفة أخرى للقرآن (فآمنا به) أي صدقنا به بأنه من عند الله (ولن نشرك بربنا أحدا) من خلقه ولا نتخذ معه إلها آخر، لأنه المتفرد بالربوبية، وفي هذا توبيخ للكفار من بني آدم حيث آمنت الجن بسماع القرآن مرة واحدة وانتفعوا بسماع آيات يسيرة منه وأدركوا بعقولهم أنه كلام الله وآمنوا به ولم ينتفع كفار الإنس لا سيما رؤساؤهم وعظماؤهم بسماعة مرات متعددة وتلاوته عليهم في أوقات مختلفة مع كون الرسول منهم