قوله (أأنتم أشد خلقا أم السماء) أي أخلقكم بعد الموت وبعثكم أشد عندكم وفي تقديركم أم خلق السماء، والخطاب لكفار مكة، والمقصود به التوبيخ لهم والتبكيت، لأن من قدر على خلق السماء التي لها هذا الجرم العظيم وفيها من عجائب الصنع وبدائع القدرة ما هو بين للناظرين كيف يعجز عن إعادة الأجسام التي أماتها بعد أن خلقها أول مرة؟ ومثل هذا قوله سبحانه - لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس - وقوله - أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم - ثم بين سبحانه كيفية خلق السماء فقال (بناها رفع سمكها فسواها) أي جعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض، ورفع سمكها: أي أعلاه في الهواء، فقوله (رفع سمكها) بيان للبناء، يقال سمكت الشئ: أي رفعته في الهواء وسمك الشئ سموكا: ارتفع. قال الفراء كل شئ حمل شيئا من البناء يقال سمكت الشئ: أي رفعته في الهواء وسمك الشئ سموكا: ارتفع. قال الفراء كل شئ حمل شيئا من البناء أو غيره فهو سمك، وبناء مسموك وسنام سامك: أي عال، والسموكات: السماوات: ومنه قول الفرزدق:
وبناء ذو سنام سامك:
إن الذي سمك السماء بنى لنا * بيتا دعائمه أعز وأطول قال البغوي: رفع سمكها: أي سقفها. قال الكسائي والفراء والزجاج: ثم الكلام عند قوله (أم السماء بناها) لأنه من صلة السماء، والتقدير: أم السماء التي بناها، فحذف التي، ومثل هذا الحذف جائز. ومعنى (فسواها) فجعلها مستوية الخلق معدلة الشكل لا تفاوت فيها ولا اعوجاج ولا فطور ولا شقوق (وأغطش ليلها) الغطش الظلمة: أي جعله مظلما، يقال غطش الليل وأغطشه الله، كما يقال أظلم الليل وأظلمه الله، ورجل أغطش وامرأة غطشى لا يهتديان. قال الراغب: وأصله من الأغطش، وهو الذي في عينه عمش، ومنه فلاة غطشى لا يهتدي فيها، والتغاطش التعامي. قال الأعشى:
ودهماء بالليل غطشى الفلاة * يؤنسني صوت قيادها وقوله: وغامرهم مدلهم غطش يعني غمرهم سواد الليل، وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس والشمس مضافة إلى السماء (وأخرج ضحاها) أي أبرز نهارها المضئ بإضاءة الشمس، وعبر عن النهار بالضحى، لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، وأضافه إلى السماء لأنه يظهر بظهور الشمس، وهي منسوبة إلى السماء (والأرض بعد ذلك دحاها) أي بعد خلق السماء، ومعنى دحاها بسطها، وهذا يدل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء، ولا معارضة بين هذه الآية وبين ما تقدم في سورة فصلت من قوله - ثم استوى إلى السماء - بل الجمع بأنه سبحانه خلق الأرض أولا غير مدحوة ثم خلق السماء ثم دحا الأرض، وقد قدمنا الكلام على هذا مستوفى هنالك، وقدمنا أيضا بحثا في هذا في أول سورة البقرة عند قوله - هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا -