وتلا عليهم القرآن، جعلوا يتساءلون بينهم يقولون: ماذا جاء به محمد وما الذي أتى به؟ فأنزل الله (عم يتساءلون) قال الفراء: التساؤل هو أن يسأل بعضهم بعضا كالتقابل، وقد يستعمل أيضا في أن يتحدثوا به وإن لم يكن بينهم سؤال. قال الله تعالى - وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قال قائل منهم إني كان لي قرين - الآية، وهذا يدل على أنه التحدث، ولفظ ما موضوع لطلب حقائق الأشياء وذلك يقتضي كون المطلوب مجهولا، فجعل الشئ العظيم الذي يعجز العقل عن أن يحيط بكنهه كأنه مجهول، ولهذا جاء سبحانه بلفظ ما. ثم ذكر سبحانه تساؤلهم عن ماذا وبينه فقال (عن النبأ العظيم) فأورده سبحانه أولا على طريقة الاستفهام مبهما لتتوجه إليه أذهانهم وتلتفت إليه أفهامهم، ثم بينه بما يفيد تعظيمه وتفخيمه كأنه قيل: عن أي شئ يتساءلون هل أخبركم به؟ ثم قيل بطريق الجواب " عن النبأ العظيم " على منهاج قوله - لمن الملك اليوم لله الواحد القهار - فالجار والمجرور متعلق بالفعل الذي قبله، أو بما يدل عليه. قال ابن عطية: قال أكثر النحاة: عن النبأ العظيم متعلق بيتساءلون الظاهر، كأنه قال: ألم يتساءلون عن النبأ العظيم، وقيل ليس بمتعلق بالفعل المذكور، لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون التقدير أعن النبأ العظيم؟ فلزم أن يتعلق بيتساءلون آخر مقدر، وإنما كان ذلك النبأ: أي القرآن عظيما، لأنه ينبئ عن التوحيد وتصديق الرسول ووقوع البعث والنشور. قال الضحاك: يعني نبأ يوم القيامة، وكذا قال قتادة، وقد استدل على أن النبأ العظيم هو القرآن بقوله (الذي هم فيه مختلفون) فإنهم اختلفوا في القرآن، فجعله بعضهم سحرا وبعضهم شعرا وبعضهم كهانة وبعضهم قال هو أساطير الأولين. وأما البعث فقد اتفق الكفار إذ ذاك على إنكاره. ويمكن أن يقال إنه قد وقع الاختلاف في البعث في الجملة، فصدق به المؤمنون وكذب به الكافرون، فقد وقع الاختلاف فيه من هذه الحيثية، وإن لم يقع الاختلاف فيه بين الكفار أنفسهم على التسليم والتنزل، ومما يدل على أنه القرآن قوله سبحانه - قل هو نبأ عظيم أنتم عليه معرضون - ومما يدل على أنه البعث أنه أكثر ما كان يستنكره المشركون وتأباه عقولهم السخيفة. وأيضا فطوائف الكفار قد وقع الاختلاف بينهم في البعث، فأثبت النصارى المعاد الروحاني، وأثبتت طائفة من اليهود المعاد الجسماني، وفي التوراة التصريح بلفظ الجنة باللغة العبرانية بلفظ جنعيذا بجيم مفتوحة ثم نون ساكنة ثم عين مكسورة مهملة ثم تحتية ساكنة ثم ذال معجمة بعدها ألف.
وفي الإنجيل في مواضع كثيرة التصريح بالمعاد، وأنه يكون فيه النعيم للمطيعين والعذاب للعاصين، وقد كان بعض طوائف كفار العرب ينكر المعاد كما حكى الله عنهم بقوله - إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما نحن بمبعوثين - وكانت طائفة منهم غير جازمة بنفيه، بل شاكة فيه كما حكى الله عنهم بقوله - إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين - وما حكاه عنهم بقوله - وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى - فقد حصل الاختلاف بين طوائف الكفر على هذه الصفة. وقد قيل إن الضمير في قوله يتساءلون يرجع إلى المؤمنين والكفار لأنهم جميعا كانوا يتساءلون عنه، فأما المسلم فيزداد يقينا واستعدادا وبصيرة في دينه، وأما الكافر فاستهزاء وسخرية. قال الرازي: ويحتمل أنهم يسألون الرسول ويقولون: ما هذا الذي يعدنا به من أمر الآخرة.
والموصول في محل جر صفة للنبأ بعد وصفه بكونه عظيما فهو متصف بالعظم ومتصف بوقوع الاختلاف فيه (كلا سيعلمون) ردع لهم وزجر، وهذا يدل على أن المختلفين فيه هم الكفار، وبه يندفع ما قيل إن الخلاف بينهم وبين المؤمنين، فإنه إنما يتوجه الردع والوعيد إلى الكفار فقط، وقيل كلا بمعنى حقا، ثم كرر الردع والزجر فقال (ثم كلا سيعلمون) للمبالغة في التأكيد والتشديد في الوعيد. قرأ الجمهور بالياء التحتية في الفعلين على الغيبة. وقرأ الحسن وأبو العالية وابن دينار وابن عامر في رواية عنه بالفوقية على الخطاب. وقرأ الضحاك الأول بالفوقية