ويقال إن الوسواس ابن لإبليس، وقد سبق تحقيق معنى الوسوسة في تفسير قوله - فوسوس لهما الشيطان - ومعنى (الخناس) كثير الخنس، وهو التأخر، يقال خنس يخنس: إذا تأخر، ومنه قول العلاء بن الحضرمي يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
فإن دخسوا بالشر فاعف تكرما * وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل قال مجاهد: إذا ذكر الله خنس وانقبض، وإذا لم يذكر انبسط على القلب. ووصف بالخناس لأنه كثير الاختفاء، ومنه قوله تعالى - فلا أقسم بالخنس - يعني النجوم لاختفائها بعد ظهورها كما تقدم، وقيل الخناس اسم لابن إبليس كما تقدم في الوسواس (الذي يوسوس في صدور الناس) الموصول يجوز أن يكون في محل جر نعتا للوسواس، ويجوز أن يكون منصوبا على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعا على تقدير مبتدإ. وقد تقدم معنى الوسوسة. قال قتادة: إن الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا غفل ابن آدم عن ذكر الله وسوس له، وإذا ذكر العبد ربه خنس. قال مقاتل: إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله على ذلك، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفي يصل إلى القلب من غير سماع صوت، ثم بين سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان: جني وإنسي، فقال (من الجنة والناس) أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فوسوسته في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته كما قال سبحانه - شياطين الإنس والجن - ويجوز أن يكون متعلقا بيوسوس: أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ومن جهة الناس، ويجوز أن يكون بيانا للناس. قال الرازي وقال قوم: من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله (في صدور الناس) لأن القدر المشترك بين الجن والإنس يسمى إنسانا، والإنسان أيضا يسمى إنسانا، فيكون لفظ الإنسان واقعا على الجنس والنوع بالاشتراك. والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجن ما روى أنه جاء نفر من الجن، فقيل لهم: من أنتم؟ قالوا: ناس من الجن. وأيضا قد سماهم الله رجالا في قوله - وأنه كان رجال من الإنس يعوذن لو برجال من الجن - وقيل يجوز أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس ومن الجنة والناس، كأنه استعاذ ربه من ذلك الشيطان الواحد، ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس، وقيل المراد بالناس الناسي وسقطت الياء كسقوطها في قوله - يوم يدع الداع - ثم بين بالجنة والناس لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان، وأحسن من هذا أن يكون قوله (والناس) معطوفا على الوسواس: أي من شر الوسواس ومن شر الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس. قال الحسن: أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين، فنعوذ بالله من شياطين الجن والإنس، وقيل إن إبليس يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس، وواحد الجنة جنى كما أن واحد الإنس إنسي. والقول الأول هو أرجح هذه الأقوال، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلا بالمعنى الذي قدمنا، ويكون هذا البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة.
وقد أخرج ابن أبي داود عن ابن عباس في قوله (الوسواس الخناس) قال: مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب فيوسوس إليه، فإن ذكر الله خنس، وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخناس.