وقد مضى تفسير هذا في سورة آل عمران. ثم وصف سبحانه تلك الجنة بصفة أخرى فقال (أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة. وفي هذا دليل على أن استحقاق الجنة يكون بمجرد الإيمان بالله ورسله، ولكن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلا من عمل بما فرض الله عليه واجتنب ما نهاه الله عنه، وهي أدلة كثيرة في الكتاب والسنة، والإشارة بقوله (ذلك) إلى وعد به سبحانه من المغفرة والجنة، وهو مبتدأ وخبره (فضل الله يؤتيه من يشاء) أي يعطيه من يشاء إلا إعطاءه إياه تفضلا وإحسانا (والله ذو الفضل العظيم) فهو يتفضل على من يشاء بما يشاء، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع، والخير كله بيده، وهو الكريم المطلق والجواد الذي لا يبخل. ثم بين سبحانه أن ما يصاب به العباد من المصائب قد سبق بذلك قضاؤه وقدره وثبت في أم الكتاب فقال (ما أصاب من مصيبة في الأرض) من قحط مطر وضعف نبات ونقص ثمار. قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار، وقيل الجوائح في الزرع (ولا في أنفسكم) قال قتادة: بالأوصاب والأسقام.
وقال مقاتل: إقامة الحدود. وقال ابن جريج: ضيق المعاش (إلا في كتاب) في محل نصب على الحال من مصيبة: أي إلا حال كونها مكتوبة في كتاب، وهو اللوح المحفوظ، وجملة (من قبل أن نبرأها) في محل جر صفة لكتاب، والضمير في نبرأها عائد إلى المصيبة، أو إلى الأنفس، أو إلى الأرض، أو إلى جميع ذلك، ومعنى " نبرأها " نخلقها (إن ذلك على الله يسير) أي أن إثباتها في الكتاب على كثرته على الله يسير غير عسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم) أي اختبرناكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا (ولا تفرحوا بما آتاكم) منها: أي أعطاكم منها، فإن ذلك يزول عن قريب، وكل زائل عن قريب لا يستحق أن يفرح بحصوله ولا يحزن على فواته، ومع أن الكل بقضاء الله وقدره، فلن يعدو امرأ ما كتب له، وما كان حصوله كائنا لا محالة فليس بمستحق للفرح بحصوله ولا للحزن على فوته، قيل والحزن والفرح المنهى عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، وإلا فليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح. قرأ الجمهور " بما آتاكم " بالمد: أي أعطاكم، وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو بالقصر: أي جاءكم، واختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الثانية أبو عبيد (والله لا يحب كل مختال فخور): أي لا يحب من اتصف بهاتين الصفتين وهما الاختيال والافتخار، قيل هو ذم للفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر، وقيل إن من فرح بالحظوظ الدنيوية وعظمت في نفسه اختال وافتخر بها، وقيل المختال الذي ينظر إلى نفسه، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاستحقار. والأولى تفسير هاتين الصفتين بمعناهما الشرعي ثم اللغوي، فمن حصلتا فيه فهو الذي لا يحبه الله (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) الموصول في محل رفع بالابتداء، وهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله، والخبر مقدر: أي الذين يبخلون فالله غني عنهم، ويدل على ذلك قوله (ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) وقيل الموصول في محل جر بدل من مختال، وهو بعيد، فإن هذا البخل بما في اليد وأمر الناس بالبخل ليس هو معنى المختال الفخور، لا لغة ولا شرعا. وقيل هو في محل جر نعت له، وهو أيضا بعيد. قال سعيد بن جبير: الذين يبخلون بالعلم ويأمرون الناس بالبخل به لئلا يعلموا الناس شيئا. وقال زيد بن أسلم: إنه البخل بأداء حق الله، وقيل إنه البخل بالصدقة، وقال طاووس: إنه البخل بما في يديه، وقيل أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا بيان صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كتبهم لئلا يؤمن به الناس فتذهب مآكلهم قال السدي والكلبي: قرأ الجمهور " بالبخل " بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحميد وابن حميصن وحمزة والكسائي بفتحتين،