والأنصار (ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا) أي غشا وبغضا وحسدا. أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولا أوليا لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غلا لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخير أمته نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه والاستغاثة به، بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم، فقد انقاد للشيطان بزمام ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلى بمعلم من الرافضة أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان وزين لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر، وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر، والله من ورائهم محيط (ربنا إنك رؤوف رحيم) أي كثير الرأفة والرحمة بليغهما لمن يستحق ذلك من عبادك.
وقد أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب إنه قال: أوصى الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقيل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله؟ أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال: ألا رجل يضيف هذه الليلة رحمه الله، فقال رجل من الأنصار، وفي رواية فقال أبو طلحة الأنصاري: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله، فقال لامرأته أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تدخريه شيئا، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالى فأطفى السراج، ونطوي بطوننا الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففعلت، ثم غدا الضيف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة، وأنزل فيهما (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: أهدى إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول، فنزلت فيهم (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أن رجلا قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت.
قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت الله يقول (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شئ، فقال له ابن مسعود: ليس ذاك بالشح، ولكنه البخل ولا خير في البخل، وإن الشح الذي