وبدلوا وتركوا الترهب، ولم يبق على دين عيسى إلا قليل منهم، وهم المرادون بقوله (فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم) الذي يستحقونه بالإيمان، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لما بعثه الله (وكثير منهم فاسقون) خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به، ووجه الذم لهم على تقدير أن الاستثناء منقطع أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة وأن الله يرضاها، فكان تركها وعدم رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه دينا. وأما على القول بأن الاستثناء متصل، وأن التقدير:
ما كتبناها عليهم لشئ من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله بعد أن وفقناهم لابتداعها فوجه الذم ظاهر. ثم أمر سبحانه المؤمنين بالرسل المتقدمين بالتقوى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) بترك ما نهاكم عنه (وآمنوا برسوله) محمد صلى الله عليه وآله وسلم (يؤتكم كفلين من رحمته) أي نصيبين من رحمته بسبب إيمانكم برسوله بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل، وأصل الكفل الحظ والنصيب، وقد تقدم الكلام على تفسيره في سورة النساء (ويجعل لكم نورا تمشون به) يعني على الصراط كما قال - نورهم يسعى بين أيديهم - وقيل المعنى: ويجعل لكم سبيلا واضحا في الدين تهتدون به (ويغفر لكم) ما سلف من ذنوبكم (والله غفور رحيم) أي بليغ المغفرة والرحمة (لئلا يعلم أهل الكتاب) اللام متعلقة بما تقدم من الأمر بالإيمان والتقوى، والتقدير: اتقوا وآمنوا يؤتكم كذا وكذا ليعلم الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب (أن لا يقدرون على شئ من فضل الله) ولا في قوله " لئلا " زائدة للتوكيد، قاله الفراء والأخفش وغيرهما، وأن في قوله " أن لا يقدرون " هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف وخبرها ما بعدها، والجملة في محل نصب على أنها مفعول يعلم، والمعنى: ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئا من فضل الله الذي تفضل به على من آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقدرون على دفع ذلك الفضل الذي تفضل الله به على المستحقين له، وجملة (وأن الفضل بيد الله) معطوفة على الجملة التي قبلها: أي ليعلموا أنهم لا يقدرون وليعلموا أن الفضل بيد الله سبحانه، وقوله (يؤتيه من يشاء) خبر ثان لأن، أو هو الخبر، والجار والمجرور في محل نصب على الحال (والله ذو الفضل العظيم) هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، والمراد بالفضل هنا ما تفضل به على الذين اتقوا وآمنوا برسوله من الأجر المضاعف. وقال الكلبي: هو رزق الله، وقيل نعم الله التي لا تحصى، وقيل هو الإسلام، وقد قيل إن " لا " في لئلا غير مزيدة، وضمير لا يقدرون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. والمعنى: لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون على شئ من فضل الله الذي هو عبارة عما أوتوه، والأول أولى. وقرأ ابن مسعود " لكيلا يعلم " وقرأ خطاب بن عبد الله " لأن يعلم " وقرأ عكرمة " ليعلم " وقرئ " ليلا " بقلب الهمزة ياء، وقرئ بفتح اللام.
وقد أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وأبو يعلي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق ابن مسعود قال: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عبد الله، قلت لبيك يا رسول الله ثلاث مرات، قال: هل تدري أي عرى الإسلام أوثق؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أفضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم، يا عبد الله هل تدري أي الناس أعلم؟ قلت:
الله ورسوله أعلم، قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا بالعمل وإن كان يزحف على استه، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها: فرقة وازرت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم