بالتحتية مبنيا للفاعل، وقرئ بالفوقية مبنيا للفاعل (ويولون الدبر) قرأ الجمهور " يولون " بالتحتية، وقرأ عيسى وابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب بالفوقية على الخطاب، والمراد بالدبر الجنس، وهو في معنى الإدبار، وقد هزمهم الله يوم بدر وولوا الأدبار، وقتل رؤساء الشرك وأساطين الكفر، فلله الحمد (بل الساعة موعدهم) أي موعد عذابهم الأخروي، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر هو تمام ما وعدوا به من العذاب، وإنما هو مقدمة من مقدماته وطليعة من طلائعه، ولهذا قال (والساعة أدهى وأمر) أي وعذاب الساعة أعظم في الضر وأفظع، مأخوذ من الدهاء، وهو النكر والفظاعة، ومعنى أمر: أشد مرارة من عذاب الدنيا، يقال دهاه أمر كذا: أي أصابه دهوا ودهيا (إن المجرمين في ضلال وسعر) أي في ذهاب عن الحق وبعد عنه، وقد تقدم في هذه السورة تفسير وسعر فلا نعيده (يوم يسحبون في النار على وجوههم) والظرف منتصب بما قبله: أي كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون، أو بقول مقدر بعده: أي يوم يسحبون يقال لهم (ذوقوا مس سقر) أي قاسوا حرها وشدة عذابها، وسقر علم لجهنم. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بإدغام سين مس في سين سقر (إنا كل شئ خلقناه بقدر) قرأ الجمهور بنصب كل على الاشتغال. وقرأ أبو السماك بالرفع، والمعنى:
أن كل شئ من الأشياء خلقه الله سبحانه ملتبسا بقدر قدره وقضاء قضاه سبق في علمه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، والقدر التقدير، وقد قدمنا الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) أي إلا مرة واحدة أو كلمة واحدة كلمح بالبصر في سرعته، واللمح: النظر على العجلة والسرعة. وفي الصحاح لمحه وألمحه: إذا أبصره بنظر خفيف، والاسم اللمحة. قال الكلبي: وما أمرنا بمجئ الساعة في السرعة إلا كطرف البصر (ولقد أهلكنا أشياعكم) أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم، وقيل أتباعكم وأعوانكم (فهل من مدكر) يتذكر ويتعظ بالمواعظ ويعلم أن ذلك حق، فيخاف العقوبة وأن يحل به ما حل بالأمم السالفة (وكل شئ فعلوه في الزبر) أي جميع ما فعلته الأمم من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ، وقيل في كتب الحفظة (وكل صغير وكبير مستطر) أي كل شئ من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم مسطور في اللوح المحفوظ صغيره وكبيره وجليله وحقيره يقال: سطر يسطر سطرا كتب، وأسطر مثله. ثم لما فرغ سبحانه من ذكر حال الأشقياء ذكر حال السعداء فقال (إن المتقين في جنات ونهر) أي في بساتين مختلفة وجنان متنوعة وأنهار متدفقة. قرأ الجمهور " ونهر " بفتح الهاء على الإفراد، وهو جنس يشمل أنهار الجنة وقرأ مجاهد والأعرج وأبو السماك بسكون الهاء وهما لغتان، وقرأ أبو مجلز وأبو نهشل والأعرج وطلحة بن مصرف وقتادة " نهر " بضم النون والهاء على الجمع (في مقعد صدق) أي في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم، وهو الجنة (عند مليك مقتدر) أي قادر على ما يشاء لا يعجزه شئ. وعندها هنا كناية عن الكرامة وشرف المنزلة، وقرأ عثمان البتي " في مقاعد صدق ".
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس (أكفاركم خير من أولئكم) يقول: ليس كفاركم خير من قوم نوح وقوم لوط. وأخرج ابن أبي شيبة وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه في قوله (سيهزم الجمع ويولون الدبر) قال: كان ذلك يوم بدر قالوا (نحن جميع منتصر) فنزلت هذه الآية. وفي البخاري وغيره عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر " أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا، فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك، فخرج وهو يثب في الدرع ويقول (سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) ". وأخرج أحمد وعبد بن حميد