الكائنة في الجنة لأهل السعادة (فيهما من كل فاكهة زوجان) هذا صفة ثالثة لجنتان، والزوجان الصنفان والنوعان، والمعنى: أن في الجنتين من كل نوع يتفكه به ضربين يستلذ بكل نوع من أنواعه، قيل أحد الصنفين رطب والآخر يابس لا يقصر أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن في مجرد تعداد هذه النعم ووصفها في هذا الكتاب العزيز من الترغيب إلى فعل الخير والترهيب عن فعل الشر ما لا يخفى على من يفهم، وذلك نعمة عظمي ومنه كبرى، فكيف بالتنعم به عند الوصول إليه (متكئين على فرش بطائنها من إستبرق) انتصاب متكئين على الحال من فاعل قوله (ولمن خاف) وإنما جمع حملا على معنى من، وقيل عاملها محذوف، والتقدير: يتنعمون متكئين. وقيل منصوب على المدح، والفرش جمع فرش، والبطائن: هي التي تحت الظهائر، وهي جمع بطانة. قال الزجاج: هي ما يلي الأرض، والإستبرق: ما غلظ من الديباج، وإذا كانت البطائن من إستبرق فكيف تكون الظهائر؟ قيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال: هذا بما قال الله فيه - فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين - قيل إنما اقتصر على ذكر البطائن، لأنه لم يكن أحد في الأرض يعرف ما في الظهائر. وقال الحسن: بطائنها من إستبرق وظهائرها من نور جامد. وقال الحسن:
البطائن هي الظهائر، وبه قال الفراء: وقال: قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة، لأن كل واحد منهما يكون وجها، والعرب تقول هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه، وأنكر ابن قتيبة هذا، وقال لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين (وجنى الجنتين دان) مبتدأ وخبر، والجنى: ما يجتنى من الثمار، قيل إن الشجرة تدنو حتى يجنيها من يريد جناها، ومنه قول الشاعر:
هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جان يده إلى فيه قرأ الجمهور " فرش " بضمتين وقرأ أبو حيوة بضمه وسكون، وقرأ الجمهور " جنى " بفتح الجيم، وقرأ عيسى ابن عمر بكسرها، وقرأ عيسى أيضا بكسر النون على الإمالة (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإنها كلها بموضع لا يتيسر لمكذب أن يكذب بشئ منها لما تشتمل عليه من الفوائد العاجلة والآجلة (فيهن قاصرات الطرف) أي في الجنتين المذكورتين. قال الزجاج: وإنما قال فيهن، لأنه عنى الجنتين وما أعد لصاحبهما فيهما من النعيم، وقيل فيهن: أي في الفرش التي بطائنها من إستبرق، ومعنى (قاصرات الطرف) أنهن يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، وقد تقدم تفسير هذا في سورة الصافات (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) قال الفراء: الطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية، يقال طمث الجارية: إذا افترعها. قال الواحدي: قال المفسرون لم يطأهن ولم يغشهن ولم يجامعهن قبلهم أحد. قال مقاتل: لأنهن خلقن في الجنة، والضمير في قبلهم يعود إلى الأزواج المدلول عليه بقاصرات الطرف، وقيل يعود إلى متكئين، والجملة في محل رفع صفة لقاصرات، لأن إضافتها لفظية، وقيل الطمث المس: أي لم يمسسهن قاله أبو عمرو. وقال المبرد: أي لم يذللهن، والطمث التذليل، ومن استعمال الطمث فيما ذكره الفراء قول الفرزدق:
دفعن إلى لم يطمن قبلي * وهن أصح من بيض النعام قرأ الجمهور " يطمثهن " بكسر الميم، وقرأ الكسائي بضمها، وقرأ الجحدري وطلحة بن مصرف بفتحها، وفي هذه الآية بل في كثير من آيات هذه السورة دليل أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا بالله سبحانه وعملوا بفرائضه وانتهوا عن مناهيه (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن في مجرد هذا الترغيب في هذه النعم نعمة جليلة ومنه عظيمة،