سورة يونس الآية (60 - 64) أشار سبحانه بقوله (قل أرأيتم ما أنزل الله) الخ إلى طريق أخرى غير ما تقدم في إثبات النبوة، وتقرير ذلك ما حاصله أنكم تحكمون بتحليل البعض وتحريم البعض، فإن كان بمجرد التشهي والهوى فهو مهجور باتفاق العقلاء مسلمهم وكافرهم، وإن كان لاعتقادكم أنه حكم الله فيكم وفيما رزقكم فلا تعرفون ذلك إلا بطريق موصلة إلى الله، ولا طريق يتبين بها الحلال من الحرام إلا من جهة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، ومعنى أرأيتم: أخبروني، و (ما) في محل نصب بأرأيتم المتضمن لمعنى أخبروني - وقيل إن " ما " في محل الرفع بالابتداء وخبرها " آلله أذن لكم " و " قل " في قوله (قل آلله أذن لكم) تكرير للتأكيد والرابط محذوف، ومجموع المبتدأ والخبر في محل نصب بأرأيتم والمعنى: أخبروني الذي أنزل الله إليكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا، آلله أذن لكم في تحليله وتحريمه (أم على الله تفترون) وعلى الوجهين، فمن في منه حراما للتبعيض، والتقدير: فجعلتم بعضه حراما وجعلتم بعضه حلالا وذلك كما كانوا يفعلونه في الأنعام حسبما سبق حكاية ذلك عنهم في الكتاب العزيز، ومعنى إنزال الرزق: كون المطر ينزل من جهة العلو، وكذلك يقضى الأمر في أرزاق العباد في السماء على ما قد ثبت في اللوح المحفوظ من ذكره سبحانه وتعالى لكل شئ فيه. وروى عن الزجاج أن " ما " في موضع نصب بأنزل - وأنزل بمعنى خلق كما قال - وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج - وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد - وعلى هذا القول والقول الأول يكون قوله (قل آلله أذن لكم) مستأنفا، قيل ويجوز أن تكون الهمزة في (آلله أذن لكم) للإنكار، وأم منقطعة بمعنى:
بل أتفترون على الله، وإظهار الاسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال الافتراء. وفي هذه الآية الشريفة ما يصك مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته، بالتحليل والتحريم والجواز وعدمه، مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله، ولا يفهمونها ولا يدرون ما هي، ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم، وجعلوه شارعا مستقلا، ما عمل به من الكتاب والسنة فهو المعمول به عندهم، وما لم يبلغه أو بلغه ولم يفهمه حق فهمه، أو فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه، فهو في حكم المنسوخ عندهم المرفوع حكمه عن العباد، مع كون من قلدوه متعبدا بهذه الشريعة كما هم متعبدون بها ومحكوما عليه بأحكامها كما هو محكوم عليهم بها، وقد اجتهد رأيه وأدى ما عليه. وفاز بأجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ، إنما الشأن في جعلهم لرأيه الذي أخطأ فيه شريعة مستقلة، ودليلا معمولا به، وقد أخطئوا في هذا خطأ بينا، وغلطوا غلطا فاحشا، فإن الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده، ولا قائل من أهل الإسلام المعتد بأقوالهم أنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليدا له واقتداء به، وما جاء به المقلدة في تقوم هذا الباطل، فهو من الجهل العاطل، اللهم كما